| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر

 

 

 

 

الاربعاء 25 /4/ 2007

 

 

المتنبي و" بوقا تيمور " في الحلة

عدنان الظاهر

هل زرتَ الحلة سابقاً يا أبا الطيب ؟ مرتين ، المرة الأولى كانت بصحبتك ، أما الثانية فلقد جئتها تلبيةً لدعوة وجهتها لي منظمة " بنت الرافدين " في الحلة ، أتيتها دون أن يرافقني أحدٌ . هل تود زيارتها مرة ً ثالثةً ؟ قال أجل ، لِمَ لا ولكن ، ما هي مناسبة هذه الزيارة التي أفضّل أن أدعوها " زورة " بدل َ زيارة ؟ قبيل سقوط بغداد المروّع على أيدي الجيش المغولي وقائده هولاكو وقتله لآخر خلفاء بني العباس     ( المستعصم بالله ) في شهر صفر من عام 656 للهجرة ... وأثناء حصار بغداد ، توجه إلى الحلة القائد المغولي ( بوقا تيمور ) لجس نبض أهالي الحلة والكوفة وواسط
[ المصدر 1 صفحة 68 ] . ومن يكون هذا ( بوقا تيمور ) ؟ إنه أخ زوج هولاكو الثانية المدعوة  (أولجاي خاتون ) . وهل إكتفى هولاكو بزوجين إثنين فقط ؟ نعم ، على ما يبدو ، واحدة تتعافى والآخرى تحيض ! قال فهمتُ قصدك . هل تدري أبا الطيب ــ ما دمنا في حديث الآزواج والنساء ــ كم من النساء أحصى هولاكو الغازي في قصور حريم الخليفة المستعصم بالله ؟ سبعمائة حليلة وسريّة وألف خادمة [ المصدر 2 ] . ألله أكبر ! صرخ المتنبي ! ألف خادمة وسبعمائة سرية وحليلة ! ألله أكبر ! نعم ، إسمع ما قال المؤرخون في هذا الأمر (( ... ورقَّ هولاكو للخليفة فأمره بأن يختارَ مائة من هذه النساء السبعمائة ويترك الباقي ، فأخرج الخليفة مائة من المحببات إليه ومن قريباته )) [ المصدر الثاني ، صفحة 140 ] . يقول رشيد الدين فضل الله الهمذاني [ نفس المصدر الثاني ]
(( ... ثم أمر هولاكو بأن تجرد أموال الخليفة وتخرج ... وقصارى القول أن َّ كل َّ ما كان الخلفاء قد جمعوه خلال خمسة قرون ، وضعه المغول ُ بعضه على بعض فكان كجبل على جبل . وأرسل سكان بغداد وفداً إلى هولاكو يطلب الأمان فأصدر أمره بالتوقف عن القتل والنهب . وفي الرابع عشر من صفر سنة 656 قُتل الخليفة )) . لم يطق صاحبي سماع هذا الكلام . لم يتحمل الصدمة . ما كان يصدق مثل هذه الأمور . شرد بعيداً عني ... بعيداً جداً . أسرف بالتدخين . شرب الكثير من أقداح الشاي . زهد في الطعام . هل تنام قليلاً يا أبا الطيب ؟ قال كلا ، المَصاب أكبر من سلطان الكرى وتعب الأجساد . الكارثة تنهك وتستهلك روح الإنسان . إذاً ، قلت له ، هل تود أن تسمع ما قال بعض مؤرخي ومعاصري تلكم الحُقبة بحق خليفة المسلمين المستعصم بالله لكي تعرف كيف سقطت بغداد وكيف كانت أمور المسلمين في زمانه ومن هم حاشيته وما هي أخلاقهم وطبائعهم ؟ قال نعم ، هات . (( ... يرأس هذه الحكومة المستعصم ذلك الرجل المغفل الضعيف المستضعف المغري باللواط له في كل ناحية علق وقواد . عن كتاب الحوادث الجامعة / المصدر الأول صفحة 70 )) . ثم ، إسمعْ ما كتب إبن الطُقطقي / مؤلف كتاب الفخري / عن خليفة المسلمين المستعصم (( ... كان شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني لا يكاد يخلو مجلسه من ذلك ساعةً واحدة . وكان ندماؤه وحاشيته جميعهم منهمكين معه على النغم واللذات . لا يراعون له صلاحاً . وفي بعض الأمثال " الخائن لا يسمع صياحاً " . وكتبت الرقاع من العوام وفيها أنواع التحذير وفيها الأشعار وأُلقيت في أبواب دار الخلافة . كل ذلك وهو عاكف على سماع الأغاني وإستماع المثالث والمثاني وملكه قد أصبح واهي المباني . وعما أشتهر عنه إنه كتب إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب . وفي تلك الأثناء وصل رسول السلطان هولاكو إليه يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار فقال بدر الدين : أنظر إلى المطلوبين وأبكوا على الإسلام وأهله . / المصدر الأول صفحة 70 )) . ظل المتنبي مطرقاً شديد الحزن عميق الإكتئاب . لم يشأ أن يعلق . المصاب أكبر من أي تعليق . بعد فترة صمت طويلة تململ صاحبي وتغيرت سحنة وجهه قليلاً ثم قال : يذكرني طلب المستعصم من بدر الدين لؤلؤ إرسال بعض المطربين والمطربات ... يذكرني بالمهزلة الأخرى . أية مهزلة يا أبا الطيّب ؟ طلبَ خليفة الإسلام والمسلمين ( المستعصم بالله ) من سلطان مصر أن يرسل له جارية تجيد الغناء إسمها ( شوكارأو شويكار ) يوم أن ْ كانت جيوشُ قائد المغول ( هولاكو ) ... حفيد جنكيزخان ، الجرارة تستعد لغزو العراق وتدمير مركز الخلافة بغداد والقضاء على دولة الخلافة العباسية نفسها. ذهِلتُ ! هل حصل ذلك بالفعل يا متنبي ؟ قال نعم . من أين إستقيتَ معلوماتك هذه يا شاعر ؟ قال إسمعْ ، سأقرأ عليك ما قرأت في بعض الكتب [ المصدر 3 / الصفحات 94 ــ 95 ] التي عنيت بالكتابة عن تأريخ تلك الحقبة المظلمة من تأريخ العرب والمسلمين :
(( ... قال ألم تسمع شكوى الخليفة من جارية طلبها من سلطان مصرَ وخُطفتْ قبل وصولها قصره ؟ إنها هي هذه الجارية نفسها . قال بدهشة : هي نفسها الجارية التي فرّت من إبنه إلى الكرخ ؟ قال نعم يا سيدي هي بعينها ، هي شوكار جارية شجرة الدر التي سمع الخليفة بها برخيم صوتها وجودة صنعتها على العود فبعث إلى سلطان مصر يطلبها منه ... )) . رحت أسيح في جولات لا نهاية لها من الخيبات والبؤس . العراق في خطر جاثم على الأبواب وخليفة المسلمين المستعصم بالله يجمع في قصوره الجواري والمغنيات وضاربات الدف والعود . أي خير وصلاح يُرتجى من أمثال هؤلاء الحكام ؟ كان المتنبي يراقب ذهولي وشرودي ولم يشأ أن يتدخل فيما أنا فيه من حيرة وعذاب وتمزق . كان بالطبع متضامناً معي وحيرته قد تفوق حيرتي وآلامي . أفقت من ذهولي ففاجأت صاحبي بالسؤال منه عن أصحاب هذا الحوار فقال سريعاً : دار الحوار في بيت وزير الخليفة مؤيد الدين إبن العلقمي ... دار بينه وبين رجل غريب الأدوار يُدعى ( سحبان ) كان يمتهن تجارة الأقمشة بين مصر والعراق يومذاك . تاجر أقمشة يلعب مثل هذه الأدوار الخطيرة في حياة الأمم والممالك ؟ تساءلتُ . قال المتنبي أنا مثلك في عجب من أمر هذا الرجل الذي ، لعلمك ، كان يخطط لقلب الخلافة العباسية في بغداد ونقلها إلى مصر تحت حكم الفاطميين [ 3 / صفحة 146 ] . نعم ، لتصبح الخلافة فاطمية لا عباسية . عجيب ! قلت متنهداً . قال المتنبي لا من أعاجيب في عالم السياسة الدنس ! لعب التجار أدواراً خطيرة في طول وعرض التأريخ البشري . جاء بعدهم الفاتحون والغازون ثم البعثات التبشيرية الدينية ثم المستشرقون . كان التجار هم الرواد الأوائل يحملون تجارتهم ويجمعون المعلومات عن الأصقاع التي يزورون بإسم الإتجار .
بعد فترة إستراحة غير قصيرة ودردشة خارج الصدد مع تناول ما تيسر من زاد ومشروبات ... إفتعل المتنبي الكثير من الجد قبل أن يسألني بإستنكار مؤدب : هل أستطيع أن أعرف سبب إقحامك لهذا الموضوع المعقد والمُشجي في لقاء اليوم ؟ معك حق ، معك كل الحق يا متنبي . أعرف كما تعرف أنتَ أن الموضوع معقد وذا شؤون وشجون . أعرف ، مع ذلك كان قراري أن أناقشه عن قصد معك ، فعبئه على كاهلي ثقيل ... ثقيل جداً يا صاحبي . بل عبئان لا عبء واحد . عبء تأريخي قديم وآخر معاصر راهن . ثم ، واصلتُ كلامي ، أرى أن التأريخ أحياناً يدور فيلتقي رأساه أو طرفاه أو نهايتاه . قال وضّح ، لا أفهم هذه الفذلكات . نعم ، كنت أريد أن أقول أنَّ أسباب سقوط دولة بني العباس تشابه إلى حد ما أسباب سقوط دولة صدام حسين البعثية . لا أريد أن أُطيل لكي لا يشعر القارئ بالملل . يكفي أن أنقل لك و له ما قال الكاتب المصري المفكر خالد محمد خالد في كتابه " مواطنون لا رعايا " [ المصدر الأول ، الصفحة 71 ] . ما قال هذا المفكر ، سأل المتنبي ؟ قال ما يلي : (( فالأمة يتقرر مصيرها يومَ يقوم فيها حكم ٌ جائر ولو تبرقع ببرقع العدالة المزيفة . إنَّ الحكام المستبدين بإستبدادهم يُنزلون المحكومين منزلة رديئة من الإستياء والقنوط يفقدون فيها زمام التصبر والإحتمال فيرحبون بكل طارق يطرق أبواب بلادهم ويرون المقاومة ضرباً من العبث والجنون . ماذا وراءهم ليحرصوا عليه ويذودوا عنه. لا نجد غازياً سار عَبرَ التأريخ إلى مدائن ففتحها أو عروش ثلها أو إمبراطوريات فأذاقها لباس الخوف والذل إلا كان إستبداد الحكم في هذه البلاد المفتوحة الصريعة الطريقَ الممهد الذي دخل منه موكب الغازين )) . تطلّعتُ في وجه صاحبي لأقرأ ما إنطبع عليه من أفكار ومشاعر تجاه ما سمع من أقوال رائعة . كان عميق التفكير متجهم القسمات وكان كمن يريد أن يقول شيئاً ذا شأن لكنه يتهيب الإفصاح عنه . أو لا يدري كيف يعبر عنه تعبيراً بليغاً يتناسب مع خطورة أفكار خالد محمد خالد ودقتها وصوابها . لم أحثثْ صاحبي على أن يقول ، إنه بالحتم سيقول وسيعبر عن رأيه فليس العياء من شيمته وهو القوالة والشاعر الفصيح . إسترسلتُ في الكلام فقلت نعم ، ما أروع ما قال خالد محمد خالد ! إستبداد الحكم والحكام هما طريقا دخول الغزاة إلى البلدان ! الناس الواقعون تحت وطأة ظلم هذا الإستبداد ينتظرون أي منقذ يأتيهم من خارج الحدود كي يرفع الظلم عنهم وينتقم لهم ممن ظلمهم وإستعبدهم ونال من أموالهم وأعراضهم وحرياتهم وممتلكاتهم وحولهم إلى قطعان من العبيد . نعم يا متنبي ، كرامة وحرية وشرف الإنسان هي أغلى من كل غال ٍ وأنفس من كل نفيس . يتشبث المظلومون العاجزون من ضحايا الإستبداد بسواهم من القادرين على تحريرهم حتى لو كان هذا المحرر أجنبياً ــ كافراً ــ أو من غير ملتهم ــ ومن غير دينهم . لذا فلا تستغرب إذا عرفتَ أن بعض رجال الدين يومذاك أصدروا فتوى فحواها (( ... لما فتح هولاكو بغداد أمر بجمع علماء العراق في المدرسة المستنصرية ولما حضروا قدم لهم إستفتاء : أيما أفضل السلطان الكافر أم المسلم الجائر ؟
... فلما رأى رضي الدين بن طاووس إحجامهم تناول الإستفتاء ووضع خطه فيه بتفضيل الكافر العادل على المسلم الجائر فوضع الناسُ خطوطهم بعده // المصدر الأول ، صفحة 74 ... عن كتاب الفخري )) . الناس ينتظرون الفرَج يا شاعر . ينتظرونه ويرجون مجيئه من أجل إنقاذهم وتحريرهم مما هم فيه من ظلم وتعسف وجور حتى لو كان يحمل إسم المهدي المنتظر ! دخل هولاكو بغداد فنهبها جنده وأحرقوها وأعملوا السيف في أهلها ودمروا ما كان فيها من خزائن الكتب النفيسة ثم قتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله ونهبوا جواهره وما كدس من ذهب أحمر وجدوه مطموراً تحت الأرض . وأخيراً إستباحوا نساءه وسراريه وجواريه. من أبواب فساد وضعف النظام الحاكم ورأس هذا النظلم دخل هولاكو بغداد . كذلك دخل الأمريكان العراق من خلال رعونة وجنون عظمة صدام حسين وفساد نظام حكمه وجوره وإستبداده وطغيانه وسرقته أموال العراقيين وإستباحته لأعراضهم وحرياتهم وما يملكون . الجور هو الجور { صدام هنا في بغداد وكان المستعصم بالله هناك أيضاً في بغداد } لكنّ سبل القضاء عليه تختلف من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان . أمريكا اليوم وهولاكو بالأمس . قال أهلنا منذ قديم الزمان : لو دامَ الظلم ُ دمّر ... فما أبدعَ ما قالوا . ما رأيك يا متنبي ؟ قال لا رأيَ لمن لا يُطاع . ليس لك هذا الكلام الجميل يا متنبي ! قال أدري ، إنه ليس لي ، أدري .
تعب المتنبي وبلغ الجهد منه كل َّ مبلغ . أغمض عينيه شابكاً ساعديه عرض صدره . هل من قيلولة قصيرة أيها الضيف ؟ فتح عينيه ببطء شديد ثم قال كلا ، لا يأتيني نوم . ماذا إذاً تقترح ؟ قال أقترح أن ننهي جولة أو دورة لقاء اليوم ، وقد سبق وأن تكلمتَ عن تمام دورة التأريخ وإلتقاء طرفي هذه الدورة ببعضهما . أفصح يا شاعر ! قال قد بدأت جولة حوار اليوم بدخول القائد المغولي وصهر هولاكو المدعو ( بوقا تيمور ) مدينة الحلة يومَ أن كانت بغداد محاصرة ً ، فهل كانت تلك زيارة هذا
( البوق التيموري ) الأولى والأخيرة لمدينة الحلة ؟ بل كانت الأولى ثم تلتها زيارة أخرى كانت الثانية والأخيرة . متى كان ذلك ؟ إسمع ما قال بعض مؤرخي تلك الحقبة الحرجة من تأريخ العراق [ المصدر الأول / الصفحة 73 / ]
(( دخل عسكر المغول إلى بغداد فجرى من القتل الذريع والنهب الفظيع والتمثيل الشنيع ما يكل القلم عن تصويره . على إثر فتح بغداد هرب أمير الحلة شمس الدين سلار الذي مر ذكره في خلافة الظاهر بقسم من عساكره إلى جيش تستر ظناً منه إنه يستطيع محاربة المغول ...، على إثر هروب أمير الحلة إنحلت حامية الحلة والكوفة وتشتت أفرادها في مختلف الجهات بولاية الحلة وبقوا مدة طويلة مشتتين فحلت محلها حاميات من المغول لتحفظ الحلة والنيل وكربلاء والكوفة والنجف من غارات الأعراب عليها ، وكان قائد هذه الحاميات بوقا تيمور )) . كان صاحبي طوال الوقت يتابعني بكل إهتمام هازاً رأسه بلطف متعجباً مما يسمع . ثم علق قائلاً : زيارتان قام بهما بوقا تيمور المغولي للحلة ، كانت الأولى قبل سقوط بغداد وكانت الثانية بعد السقوط. ثم ، ما الذي لفت نظرك يا متنبي في هذه الأخبار التأريخية ؟ المحتلون الغزاة القساة القتلة يشكلون من جندهم حاميات للدفاع عن أهم مدن الفرات الأوسط والأماكن المقدسة فيه وحماية الناس من " غارات الأعراب " !! الأعراب يغيرون على المدن ينهبون ويسلبون وقد يقتلون !! ظل صاحبي يوالي هو رأسه كأنه لا يصدق ما سمعت أذناه . كان يردد عبارتي " غارات الأعراب " بأسى وألم . رجع إلى القرآن الكريم فشرع يقرأ (( الأعرابُ أشدُ كفراً ونفاقاً وأجدرُ ألا ّ يعلموا حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسوله واللهُ عليمٌ حكيم / سورة التوبة / 97 . ومن الأعرابِ من يتخذُ ما يُنفقُ مَغرماً ويتربصُ بكم الدوائرَ عليهم دائرةُ السوءِ واللهُ سميعٌ عليم / التوبة / 88 . وممن حولكم من الأعرابِ مُنافقون ومن أهل المدينةِ مردوا على النفاقِ لا تعلَمُهم نحنُ نعلمُهم سنعذبُهم مرتين ثم َّ يُردون إلى عذابٍ عظيم / التوبة / 101 )) .
أكل هذا الكلام عن الأعراب يا متنبي ؟ قال وأكثر . كان هذا دأبهم منذ أيام الرسول ، كفار منافقون يتربصون بسواهم الدوائر . بدل أن يقاوموا زحف وسطوات المغول كانوا يغيرون على المدن فينهبون ما فيها من طعام ومؤنة ومقتنيات . قلت لصاحبي وهذا بالضبط ما حدث في بغداد في وبُعيد التاسع من شهر نيسان عام 2003 . إنهار صدام ونظام حكمه بدون مقاومة تذكر في بغداد فسرعان ما بدأ النهب والحرق وتدمير التراث القديم وسرقة آثار سومر وبابل وآشور . أُتلفت المكتبات ونهبت الوزارات وهرِّبت الآثار النفيسة وعمّت الفوضى والخراب والدمار . تمت الدائرة وإلتقى طرفاها المأساويان يا متنبي ... إلتقيا في بغداد بعد مرور قرابة الثمانية قرون من الزمان . هل أزيدك بعض العلم يا ضيفي العزيز ؟ قال تفضل ... ما لجُرحٍ بميتٍ إيلامُ ... تفضلْ . أعني وجه شبه آخر بين ما حدث بالأمس البعيد واليوم القريب . قال تفضلْ . (( لما تم َّ الإستيلاء لهولاكو على جميع العراق نظم حكومة العراق على الوجه التالي : جعل مؤيد الدين محمد بن العلقمي حاكماً عاماً وضم َّ إليه علي بهادر شحنة َ بغداد وفخر الدين بن الدامغاني ، ونجم الدين بن أحمد بن عمران وفوض إليهم تعيين الصدور والنظار والنواب في الأطراف . عين تاج الدين بن الدومي صدرَ البلاد الفراتية وكان زمنَ المستعصم حاجبَ الباب فلم تطلْ مدته وتوفي في ربيع الأول سنة 656 فجعل ولده مجد الدين مكانه وبقي على ذلك مدةً ثم نُقل إلى أشراف الحلة ... المصدر الأول / صفحة 73 )).
بلغ أسى المتنبي ذروته حتى خيل لي أنَّ أديم وجهه قد حال فغدا داكناً . سألته عن رأيه قبل أن نفترق . ماذا أقول يا صاحبي ، قال ، ما أشبه اليوم بالبارحة ! ماذا تقصد يا متنبي ؟ هولاكو يعين حكومةً على العراق فيحذو الحاكم المدني الأمريكي ( بريمر ) بعد ثمانية قرون حذوه فيعين ( مجلس الحكم الإنتقالي ) ثم يشكل وزارة مؤقتة لتحكم العراق ... ( حكومةٌ من كركري يرأسها حبنتري ) .
أردتُ مداعبة صاحبي عل َّ الدعابة تخفف عنه فإقترحت عليه أن نزور القائد المغولي حاكم الحلة ( بوقا تيمور ) ... إنتفض المتنبي رافضاً الفكرة جملةً وتفصيلاً ثم قال بسخرية والغضب يتفجر في عينيه : إذهبْ وحدك وزرْ هذا الطاغية الجلاد وقدمْ له التبريكات والتهاني وإنحرْ تحت قدميه خروفاً سميناً وطشَّ فوق رأسه المصقول والحامض حلو والملبّس ... لعله يصدر فرماناً سلطانياً يعينك بمقتضاه رئيساً لجامعة بابل ( الحلة ) أو أن يمنحك لقب ( شريف ) أو ( صدر ) أو ( نقيب ) ... إذهب له وحدك فلقد خبرتُ نفاق وتذبذب وإنقلابات الكثرة من المثقفين العراقيين ... إذهبْ ثم قصَّ علي حديث ما جرى بينكما . يا متنبي ! لا تدخلْ في ( الحدادخانة )، إنما كنتُ أمزح معك . لا شأن لي بالوظائف الحكومية ... وإني زاهد بالألقاب التشريفية ... تركناها لمن هم بأمس الحاجة لها ... هل نسيتَ ما قال بهذا الصدد الكاتب الساخر المرحوم ( برنارشو ) ؟ لم يجبْ .
قام المتنبي متثاقلاً ينوء بثقل وطأة ما سمع من رزايا وبلاوي حلت بوطنه العراق قبل وبعد مغادرته لهذا الوطن المبتلى !! قال وهو يغادر بيتي : لا تنسَ أن تثبت أسماء مصادر معلوماتك عن هولاكو وبوقا تيمور والمغول.

نيسان ( أبريل ) 2007

المصادر

1 ــ الشيخ يوسف كركوش الحلي (( كتاب : تأريخ الحلة ، القسم الأول، في الحياة السياسية . الطبعة الأولى 1965 . الناشر : المطبعة الحيدرية ومكتبتها في النجف الأشرف )) .
2 ــ حسن الأمين (( كتاب : جنكيز وهولاكو / الغزو المغولي للبلاد الإسلامية ، من بغداد إلى عين      جالوت . الناشر : دار النهار للنشر ، بيروت 1983 )) .
3 ــ جرجي زيدان (( كتاب : شجرة الدر. الناشر : دار مكتبة الحياة ، بيروت ، بدون تأريخ )) .