| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الثلاثاء 23/9/ 2008



المتنبي… المعدان… الكاولية

عدنان الظاهر 

أبو الطيب على الخط…
معك صديقك الذي لا يكلُّ منك ولا يملُّ من الحديث معك.
أهلاً وسهلاً. تفضّلْ.
يعلم جنابكم أن حرية التعبير بلغت الأوج في عراق اليوم. ثم سادت أو كادت مفاهيم التعددية وحقوق الإنسان والإعتراف بحقوق الأقليات العرقية والدينية وما شابه ذلك. نعم، قد علمت، فأنا أتابع ما تكتب صحف بغداد وما يُنشر في الكثير من مواقع الإنترنت ولاسيّما موقع " صوت العراق ". أصبح للعراق أخيراً صوتٌ مُجَلجِلٌ يلعلع ما بين أرض العراقين والسماء السابعة. يقرأه الإنس على الأرض والجن في السماء. إذن ما الذي يمنعك من الكتابة والدفاع عن حقوق بعض الناس المنسيين الذين لم يجدوا حتى هذه اللحظة من يذكرهم ومن يتكلم بإسمهم ومن يدافع عن حقوقهم البشرية والإثنية والقومية. من هم هؤلاء ( الناس المنسيّون ) ولِمَ لا يدافعون هم عن أنفسهم ويطالبون هم بحقوقهم التي أخذها سواهم من باقي الأقليات القومية والعرقية والدينية ؟؟ يا سيدي وأنتَ العارف، ليس في هؤلاء الناس المنسيين مثقفون وكتّاب ومحامون يتكلمون ويطالبون. بل الأنكى من ذلك وأمرَ، قد لا يعرفون أنَّ لهم حقوقاً طبيعية وطموحات مشروعة في تأسيس كيانات إنسانية لهم مستقلة وأنَّ لهم نصيباً في الوزارات العراقية ومقاعد في المجلس الوطني بل وحتى في السلك الدبلوماسي. قال صاحبي من هم بالله عليك هؤلاء الأقوام المنسيون ؟ المعدان يا أبا الطيّب ثم الغجر ( الكاولية ). كاد أن يموت صاحبي من الضحك !! غصَّ وإنتفخت عيناه. خشيتُ أنْ سينفق وسأكون المسؤول عن موته. حين صحا من نوبة ضحكه الهستيرية صار يردد { لا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله … للمعدان والكاولية حقوق }
أجل يا شاعري المفَضَّل، لهم كما لسواهم حقوق. هم أبناء العراق منذ الزمان القديم. معدان أهوار جنوب العراق هم على الأرجح من بقايا السومريين. هل تعلم أبا الطيّب أنَّ لهم لغة خاصة يتداولونها لكن لا يكتبونها ؟؟ لغة شبيهة بالرموز السرية. تراكيب بسيطة يتوارثونها جيلاً بعد جيل. إحتجَ المتنبي قائلاً بل هؤلاء قوم ( إستوردهم ) الفاتحون العرب المسلمون من بلاد السند والهند. حملوهم في البحر مع جواميسهم لأنَّ قشطة ( قيمر ) هذه الحيوانات السود الضخمة قد أعجبت قادتهم وأمراءهم. لا يا سيدي، أخطأتَ كثيراً. هؤلاء موجودون في أهوار جنوب العراق قبل الفتوحات الإسلامية ربما بآلاف السنين.
كانوا هناك، أو ربما نزحوا إلى تلكم المناطق من شبه القارة الهندية بسبب الطبيعة الجغرافية ووفرة المياه الضحلة والمناخ المناسب لتكثير الجاموس. مسطحات مائية وقصب سكّري وطبيعة محصَّنة بالماء والبردي والقصب. ماذا يبغي مربو الجاموس أكثر من ذلك ؟؟ كانت الأهوار قديماً أوسع كثيراً مما هي عليه اليوم. تقلّصت مساحاتها بسبب تناقص منسوبات مياه نهري دجلة والفرات التدريجي، ثم زاد صدام حسين سبباً آخر إذ قام بردم وتجفيف الكثير من مناطق الأهوار. لذا قلَّ الجاموس في العراق وتناقص عدد مربيه فشحَّ ( القيمر ) في الأسواق. غدا عزيزاً حتى على القادة والأمراء. تساوي به الغنيُّ والفقير. قال تقصد مثل شهر رمضان. قلتُ كلاّ، لا يتساوى الفقير والغني في هذا الشهر الفضيل. موائد إفطار الأغنياء شيء وما يفطر به الفقير شيء آخر. لا عدالةَ في هذا الشهر. تساوٍ في جوع الصوم نهاراً وتفاوت في الإفطار مساءً والسحور فجراً. قال لكنَّ الفئتين متساويتان في ما بين هاتين الفترتين : الإفطار والسحور. قلتُ كيف وما هو وجه التساوي ؟ أخذ المتنبي يتلو بعض آي القرآن [[
أُحِلَّ لكم ليلةَ الصيامِ الرَفَثُ إلى نسائكم هُنَّ لِباسٌ لكم وأنتم لِباسٌ لهُنَّ…/ من سورة البقرة ـ الآية 187 ]]. ضحكتُ، والله ضحكت طويلاً ومن كل قلبي. إستكثر المتنبي عليَّ هذا الضحك الطويل فرفع حاجبيه الكثيفين وبسط كفيه يسألني سبب ضَحكي. يا أبا الطيّب، كيف يفيد من هذه الآية رجلٌ صام نهارَه فجاع ولم يأكل في إفطاره شيئاً ذا بال ؟ بلى، يفيد منها وإلى الحدود القصوى أولئك الذين أتخموا أجوافهم بما لذَّ وطاب من مأكولات وحلوى. السمك والدجاج وبقلاوة الحاج جواد الشكرجي واللقم المعتَّق بالمستكي و…و… إلخ. ثم فاكهة الصيف والشتاء. أفحمتُ بحجتي صاحبي فأطرق ولاذ بالصمت يفكِّرُ عميقاً بفحوى الآية القرآنية وحقيقة التفاوت الصارخ في شهر التساوي والعدل. القانون واحد لكنه متفاوت في التطبيق. يعطي الله حقوقاً يمارسها البعض ويعجز عن ممارستها البعض الآخر. عدالة السماء العالية تصبح لا عدالة على الأرض. ما قيمة القوانين والشرائع
إذن ؟ أقيامها جزئية ونسبية غير مُطلقة، أجاب المتنبي. أحسنت… برافو… أحسنتَ. الآن أشعر بك كائناً بشرياً سويّاً كأنك نبتَّ في تربة أديم كوكبنا الأرضي لا على أديم كوكب المرّيخ. بالمناسبة، لِمَ أسموه [ مُرّيخْ ] ؟ أسألكَ ونحن ما زلنا في أجواء رمضان والصوم والإفطار والرَفثُ إلى النساء في ليلة الصيام. قال لا أدري، لِمَ تسألني أسئلة عويصة لكأنك تتقصد إحراجي. ثم إني لم أصمْ رمضانَ في حياتي أبداً، ويعرف ذلك خصومي معرفة أكيدة. ثَقُل الجو فأدرتُ الحديث ناحية الشق الثاني من محاورة اليوم مع المتنبي. ألديك مُتسعٌ من الوقت يكفي لمناقشة الشق الثاني من كتاب اليوم ؟ تقصد موضوع أصحابك الغجر ( الكاولية ) ؟ نعم، علماً إنهم ليسوا وما كانوا يوماً أصحابي. كنتُ زمن الطفولة أجد متعةً في سماع أغانيهم وألحانهم على آلة ( الربابة ) بوتر واحد أو إثنين وإيقاع ( طبلاتهم ) الضيِّقة رأساً وجسداً. ثم رقص فتياتهم الغجريات بالخناجر أحياناً على مقام ( الهجع ) و ( الحسجة ). كانوا ينفِّذون هذه المهرجانات في الساحات العامة صيفاً في مناسبات العرس أو طهور ( خِتان ) الأطفال. يُكبِّلُ الأهل ذراعي طفلهم من خلفه بقوة وحين يصرخ باكياً يملأون فمه المفتوح خوفاً بقطع الحلوى (الملَبّس والجكليت ) في حين يكون الحلاّق أو التركي العَلَوي بملابسه السود الفضفاضة ( الزِعِرتي ) قد أتم عملية الختان برشاقة وسرعة ثم ينهض بصينية صغيرة في وسطها ( قُلفة ) الصبي أو الطفل ليجمع فيها ما يهديه الأهل والأصدقاء له جرّاء العملية ( المقدَّسة ) التي نفّذها بنجاح وجدارة. الحلوى وطرب الغجر هي لرفع معنويات الطفل وجعله ينسى ما قاسى من آلام قطع جزء من جلد جسده البض. ألا يستحق الغجر أن نعترف بحقوقهم كاملة وهم الذين يؤنسوننا ويطربوننا ويؤاسون أطفالنا جزاء ما فقدوا من دم ولحم ولا يعرفون لماذا. لا أتكلم عن حفلاتهم أيام الأعراس. هنالك لا يفقد الرجل شيئاً أو جزءاً من جسده. هنالك يسيل على الفراش دمٌ يفتخر به من أساله لا من فقدته. فهل في حفلاتهم وطربهم مؤاساة للعروس الأنثى أم تكريم للعريس الذَكَر ؟ لم يفقدْ صاحبي صبره، بل وكان مصغياً لحديثي كأنْ لم يسمع بمثيله من قبلُ. ما الذي أغراه في أحاديث الختان والعرس ؟ أردتُ أن أداعبه قليلاً فقلتُ يا أبا الطيّب، أعرف كما يعرف الجميع أنكَ رجل متزوج ولك ولد واحد إسمه ( مُحَسَّد )، لكني لا أدري ولا يدري غيري هل أنتَ ( مختون ) ؟ إبتسم الرجل على مضض وعيناه عاتبتان أشد العتب. قال إذا كنتَ أنتَ مختوناً فأنا كذلك. وإلاّ فلا. ضحكنا معاً فتبدّل الجو العام وإنتعشت الأنفس وطابت. لذا طلب مني أن أتكلم في موضوع الغجر بعد الكلام عن معدان الجنوب. يا سيدي، للغجر لغة بدائية خاصة بهم لا يفهمها سواهم. لهم رموزهم وإشاراتهم ويزعمون أنهم يفهمون الكواكب والنجوم مثل قدامى كلدان بابل وسَحَرتهم ومنجِّميهم. زواجهم زواج مُغلَق فهم لا يتزاوجون مع باقي الأقوام. صحيح إن الغالبية العظمى منهم أقوام مترحِّلة لا تستقر في مكان ولا في بلد واحد. إنهم أقوام عابرة للقارات والحدود، بل لا يعرفون للحدود الدولية معنىً أو مغزى. لا تجمع هذه الأقوام لغة واحدة لكني معني فقط بحالة غجر العراق. يقولون إنَّ لهم ملكاً في بغداد يجمعون له الأموال من رقصهم وغنائهم ومما يسرقون. ويا أبا الطيّب، هل تدري أنَّ الإتحاد السوفياتي السابق والدولة الروسية الحالية تعتبران الغجر قومية مستقلة ومتميزة، وتحمل هوياتهم الشخصية وجوازات سفرهم إسم ( غَجَري ) في الحقل الخاص بالقومية حسب التسلسل المعروف : الإسم الثلاثي. تأريخ ومكان الميلاد. القومية. إذن هم شعب له قوميته الخاصة ولغته ـ البدائية ـ الخاصة. لهم طقوسهم وتقاليدهم وعاداتهم التي تميزهم عن سواهم. بل وكان لهم مسرح خاص في مدينة موسكو. قال المتنبي ومن هم هؤلاء القوم وما أصلهم ؟ سؤال صعب ومعقَّد يا صاحبي. لكني أميل إلى الظن إنهم بقايا أقوام دَرَست وبادت كما بادت أقوام وقبائل عربية في سالف الزمان ( العرب البائدة ). قد تكون لمعتقداتهم وتقاليدهم أصول في الديانات الوثنية أو الزرادشتية أو المانوية أو البابلية القديمة. مهما كانت طقوسهم أو دياناتهم فإنهم يمثلون في نظري شعباً متميزاً وأقلية عرقية أخذت ربما الكثير من الإسلام. أقول ( ربما ) لأنهم قوم معزولون يحيطون أنفسهم بالكثير من الألغاز والأسرار ويتخاطبون أحياناً كثيرة بالعيون. ليست هناك معلومات دقيقة عن حياتهم الداخلية الخاصة. ما هي أصول وطقوس زواجهم ؟ ما علاقة الرجل بالمرآة ؟ هل زواجهم أحادي أم متعدد ؟ لمن الكلمة العليا ؟ لمن حق التملّك والإرث ؟ هل الطلاق محرَّم حسب عقائدهم ؟ هل الولد للأم أم لأبيه ؟ قوم لا يقيمون في مكان واحد وإن أقاموا فلفترة قصيرة وعادةً بالقرب من الأنهار وذلكم أمر مفهوم. يغتسلون ويتزودون بالماء للشرب وطهو طعامهم البسيط ثم لإرواء وسائط نقلهم : الحمير. لا يقتنون إلاّ الحمير من بين سائر الحيوانات المعروفة. لم يرَ أحدٌ معهم شاةً أو معزى أو بقرةً أو جملاً قطُّ. وسكناهم بيوت الشعر ورجالهم كثيرو التدخين حتى لقد غدا الغجريُ وصدرُ الغجري مضربَ المثل في تنوِّع ما يُدِّخن من سجائر وقبول أي نوع منها مهما تفاوتت قوة التبغ الذي فيها. (( صدر كاولي )).
نهض صاحبي المتنبي متثاقلاً عليه بعض مظاهر الإعياء. خيراً يا صديق ؟ قال حديث الغجر حديث ممتع وشائق لكني لا أجدهم يمثلون شعباً واحداً ولا قومية واحدة ولا جنسا بشرياً واحداً منسجم اللِحمة والسدى. لذا فليس لهم حق المطالبة بحقوق كتلك التي نالها أخوتنا الكرد والتركمان والكلدو ـ آشوريان ( آشور + سريان ) على سبيل المثال. ثم رفع صاحبي عقيرته قائلاً : وهل نال قبلهم من هم أفضل منهم من الأقليات العرقية والدينية حقوقهم حتى تقومُ أنتَ اليوم مدافعاً عن حقوق الكاولية ؟ هل نال الصابئة المندائيون حقوقهم كاملة في بلدهم العراق ؟ هل نال اليزيديون حقوقهم ؟ هل منهم وزير أو سفير أو وكيل وزارة أو مستشار أو نائب في المجلس الوطني ؟؟!! ضحكت، ضحكتُ حتى أغّضبتُ صاحبي. قلت له لم يبقَ في العراق مَن يطالب بحقوق الإخوة المندائيين.
هاجرت غالبيتهم العظمى وإنتشرت في أراضي الله الواسعة من أقاصي المعمورة في السويد والنرويج حتى أمريكا وكندا وأستراليا ثم أوربا. لم تحتمل المزيد من الظلم والتمييز. تركوا العراق لكي لا ينقرضوا ويصبحوا أمّةً بائدة نقرأها في التاريخ كما قرأنا أخبار العرب البائدة. لعلمك أبا الطيب،لم يغادرْ أي فرد من معدان العراق بلدهم. تحمّلوه في خيره وشرّه. لم نعرف عنهم أنهم رفعوا عقيرتهم بالشكوى لا من صدام حسين ولا من غيره. قوم قانعون بما لديهم وليس لديهم طموحات كبيرة. [ هاجر المندائيون صنّاع الفضة والميناء المَهَرة وظلَّ الغجرُ في العراق والمعدان ]. كان هذا تعليق أبي الطيب. أجلْ، قلتُ، والغجر كذلك يهاجرون …لا خوفاً من قتلٍ أو تمييز عِرقي. كانوا أبداً مهاجرين، يبقى منهم بعضٌ ويهاجر البعضُ الآخرُ مثلَ الطيور هجراتٍ موسمية حسب الطقس ووقع فصول السنة. لم يدرس عالمٌ ظروف هجراتهم ولا إلى أين ولا متى ؟ وعليه لا سبيل لمقارنتهم بالأخوة المندائيين أصحاب زكريا ويحيى، يوحنا المعمدان ((
يا زَكريا إنّا نُبَشِركَ بغٌلامٍ إسمهُ يحيى لم نجعلْ له من قبلُ سميّا/ سورة مريم، الآية 7 ))
تثاءب صاحبي، غفا قليلا وإختفى.


09.09.2008

free web counter