|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء 24/4/ 2012                                 د. عدنان الظاهر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

لقاءات مع الراحل الفنان محمود صبري
(توفي في بريطانيا في 13.نيسان 2012 وسيُدفن في 27.4)
 

د. عدنان الظاهر

أولاً : في بغداد / نيسان 1973

نقل لي رئيس قسم الكيمياء الصديق الدكتور عبد الرضا الصالحي رغبة فنان عراقي في أنْ يعرض لمختص في شؤون ميكانيك الكم الجوانب العلمية لطريقته الجديدة في فن الرسم وأنْ يتناقش معه ويسمع رأيه. كنت وقتذاك أُدرِّس مادة مبادئ كيمياء الكم لطلبة السنة الرابعة كيمياء في كلية علوم جامعة بغداد فضلاً عن كوني مقرراً لقسم الكيمياء. سألته أين هذا الفنان ؟ قال تجده في هذه الساعة في أكاديمية الفنون الجميلة . قصدت الأكاديمية ووجدت هناك كلا من السيدين ضياء العزاوي وإسماعيل فتّاح التُرك وكلاهما رسام ومُدرِّس في الأكاديمية. أين السيد محمود صبري ؟ أجابا إنه كان هنا لكنه غادر إلى مطبعة وأوفست رمزي. ذهبت إلى مطبعة رمزي ووجدته هناك. فتحنا الموضوع وجرت بيننا نقاشات ووجهت إليه الكثير من الأسئلة حول منهجه وطريقته الجديدة في رسم اللوحات التي أطلق عليها إسم " واقعية الكم ". سألته أيجد غضاضة فيما سأسأل وأوجه من تساؤلات قد يراها مُحرجة ؟ قال سلْ ستجدني مرحباً بكل ما ستسأل عنه. ما كنتُ أعرفه سابقاً ولا أعرف شيئاً عما وراءه من تأريخ فني أو وطني نضالي لكني عرفت أنه مُقيم في مدينة براغ عاصمة جيكوسلوفاكيا يومذاك. طلب مني حضور أمسية قامت بتنظيمها له جمعية الفنانين العراقين في المنصور وأنْ أقرأ مجمل آرائي حول طريقته الجديدة في رسم اللوحات. وافقت وكتبت بياناً مطولاً ذكرت فيه ما للفنان وما عليه من جوانب علمية ومن وجهات نظر كيمياء الكم.

كنت هناك حسب الموعد ووجدت كل شيء مرتباً مُعدّاً في حديقة نادي ومقر الجمعية .. وفوجئتُ بوجود عدد كبير من الضيوف ميّزتُ فيهم زميلي في قسم الكيمياء الدكتور غازي عبد الوهاب درويش وربما صهره الفنان المعروف حافظ الدروبي. ثم كان الراحل جبرا إبراهيم جبراً جالساً في الصف الأمامي. أخبرني فيما بعد الفنان الأخ فيصل لعيبي أنه كان هناك بين الحضور وكان وقتها ما زال طالباً في أكاديمية الفنون الجميلة ( أو ربما معهد الفنون الجميلة ). من على منصّة خاصة كانت في مواجهة الجمهور قرأت بياني مفصّلاً ثم عرض الفنان محمود على شاشة كبيرة سلايدات لمجموعة من لوحاته الجديدة وقام بشرح مضامينها فهذا طين وهذا سيليكون وهذه جزيئة ماء ... وجّه الحضور الكثير من الأسئلة فأجاب عليها الفنان الفقيد بإسهاب وكان مقتدراً ومقنعاً في أغلب ردوده. كان كثير القناعة فيما يقول وكبير الثقة في طريقته وجدواها وحداثتها. قبل أنْ نفترق عرض عليَّ أنْ نلتقي عصرية اليوم التالي حيث دعاه شفيق الكمالي على عشاء في أحد نوادي بغداد . إلتقينا فذهبنا لزيارة معرض مشترك بين الكمالي ويوسف الصائغ. بعد زيارة المعرض ذهبنا لتناول العشاء وكان معنا الأستاذ محمد كامل عارف. كان عشاء متواضعاً جداً. ليس المهم نوع العشاء ولكن دخل الفنان الراحل في نقاشات جادة مع الكمالي كان فحواها أنْ تخصص وزارة الثقافة له قاعة مناسبة ليؤسس فيها ورشة عمل ومرسم خاص به وبمن سيلتحق به من طلبة الفنون الجميلة وبالطبع تعهد بترك براغ والرجوع لبلده العراق. عرض عليَّ أنْ ألتحق بورشته أو مختبر أبحاثه في فن الرسم خبيراً في شؤون كيمياء وميكانيك الكم لكني اعتذرتُ . طلب الكمالي منه كتابة تقرير مفصّل حول مشروعه لدراسته والبت فيه من قبل وزارة الثقافة التي كان الكمالي حتى وقت قريب وزيرها ثم أُعفي من مسؤوليتها . عرضت على الراحل فكرة أنْ أسعى إلى ترتيب لقاء له ليقدم محاضرة عن منهجه الجديد في المركز الثقافي السوفياتي على شارع أبي نؤاس في بغداد. رحّب المرحوم بالفكرة فسارعت للإتصال بالملحق الثقافي السوفياتي وناقشته في هذا الأمر فرحب الرجل بالفكرة وسرعان ما أُعدَّ الكارد الخاص بالدعوة لهذه المناسبة يحمل عنوان المحاضرة واسم الفنان فقمت بتوزيع بعضها على الأصدقاء وما كان أمامنا ما يكفي من وقت لتوزيعها على عدد كبير من المهتمين بأمور الفن. في ساعة الشروع بتنفيذ البرنامج أصرَّ مدير القاعة العراقي أنْ يقوم هو بتقديم محمود صبري رغم أنه لا يعرف محمود ولا علاقة له بالفن ولم يطّلع على منهج محمود في الرسم. لم أشأ أنْ أساهم في خلق أزمة قد تُحرج الضيف العزيز فتنازلت لهذا المدير عن المهمة التي أعددتُ نفسي للقيام بها . كان الحضور متواضعاً لشديد الأسف لضيق الوقت المُتاح لتوزيع رقاع الدعوة . بعد إنتهاء البرنامج إلتقيت الأخ فائز الزبيدي فطلبتُ منه أنْ ينشر مطالعتي عن فن محمود صبري في مجلة الثقافة الجديدة وكان هو مسؤول الجوانب الثقافية والفنية فيها. رفض الفكرة جملة وتفصيلاً إذْ لم يكن مقتنعاً بأفكار محمود صبري ولا بمنهجه الجديد في تنفيذ اللوحات. نفس مواقف ستالين في حينه من موضوعي ميكانيك الكم وأشعة الليزر حيث حظر تدريسهما بإعتبارهما هلوسات برجوازية !

أهداني الراحل بيان واقعية الكم باللغتين العربية والإنكليزية وترك معي عنوان بيته ورقم تلفونه في براغ . فهمت فيما بعد أنَّ وزارة الثقافة العراقية لم توافق على مشروع صبري فظلَّ الرجل مغترباً مقيماً في براغ حتى عام 2009 .

كان توّاقاً للرجوع إلى وطنه الذي غادره عام 1960 تاركاً منصباً وظيفياً مرموقاً لدراسة فن الرسم في أحد المعاهد السوفياتية في موسكو وبالفعل إلتحق بمعهد مختص ومكث هناك ثلاث سنوات ثم غادر موسكو صيف عام 1963 وأقام في براغ. طبيعي أنَّ أجواء الجبهة الوطنية التي إنعقدت عام 1973 بين الحزب الشيوعي ( حزب محمود صبري ) وحزب البعث أغرت الفقيد بالرجوع للوطن ولكن ... عسى أنْ تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم ...

الغريب أنَّ الراحل لم يتطرق لذكر ما وقع بيني وبينه وما قدّمتُ له من جهود خلال زيارته تلك إلى بغداد لا في أحاديثه الخاصة والعامة ولا فيما قال في الفيديوهات المسجّلة له حديثاً . بلى , ذكر ذكراً عابراُ في بضعة كلمات أنه كان قد زار العراق عام 1973 للمشاركة في مهرجان للفنانين العرب في بغداد. كان سروره عظيماً أنه عثر على أستاذ مُختص في كيمياء الكم ناقشه  بصبر وإقتدار وبيّن له أوجه الخطأ والصواب فيما نظّر وعلل وبرر. كنتُ أول وكنت آخر مختص عرفه محمود صبري وكتب عنه في مناسبتين . خلا ما سمعت أنَّ الصديق الراحل الدكتور محمد عبد اللطيف مطلب ـ مختص بالفيزياء الذرية ـ  كان هو الآخر قد كتب نقداً لواقعية كم محمود صبري لكنَّ الثقافة الجديدة رفضت نشر ما كتب. لعله نشر مقالته في صحف أو مجلات أخرى لكني لم أطّلع عليها .

ثانياً : في مدينة براغ

1ـ 1977

زرتُ وعائلتي صيف عام 1977 مدينة براغ ضمن سياحة طويلة معقدة بسيارتي زرنا خلالها العديد من البلدان إستغرقت شهرين كاملين تموز وآب قطعنا فيها 14 ألف كيلومتراً. وطبيعي أنْ أتصل بمحمود صبري الرجل الذي ترك فيَّ إنطباعاً جميلاً حيث التواضع وقبول النقد الثقيل ودماثة الخلق ثم تغرّبه المفروض عليه . شرح لي كيف أصل إلى شقته فوصلتُ . وكان لقاء حميماً طويلاً تعرف فيه على عائلتي وتحدثنا طويلاً مرة أخرى حول جوانب منهجه الجديد ولاحظتُ إهتمامه بمداراة الشاي في قوري من الخَزَف مُغطى وكان حقاً شاياً ممتازاً قدمه مع الكيك لضيوفه القادمين من بغداد في سفرة سندبادية . كانت بعض جدران صالة الإستقبال مليئة بخطوط متوازية وأخرى متقاطعة فعرفت أنه دليل منهجه في حسابات أطوال الأطياف الموجية وتحويلها إلى ألوان تراها العين . كان كثير الحماس للدخول معي في نقاشات علمية وما كان الرجل مختصاً لا بالكيمياء ولا بالفيزياء. في شقته الصغيرة الأنيقة صالة كبيرة لإستقبال الضيوف إتخذ من أحد أركانها ورشة  لرسم لوحاته. ثم حجرة نوم واحدة . مع ذلك ، ويا لكرم نفس الراحل ، عرض علينا المكوث معه في شقته لنا حجرة النوم وله صالة الإستقبال. شكرته كثيراً واعتذرتُ فقال [ يمكث معي هنا حمدي التكمه جي وعائلته حين يزورون براغ ]. شكرته ثانية. بعد الكيك والشاي وشتى الأحاديث إقترح أنْ نذهب إلى مقهى بعينها تشرف من علٍ على نهر فلتافا أو مولداو الذي يخترق مدينة براغ ويقسمها نصفين. ركبنا السيارة وحسب توجيهاته وصلنا الكازينو العالي الأنيق الذي كان يحمل إسم أكسبو 1957 . كانت جلسة أكثر من شاعرية حيث الجانب الأيمن من براغ تحت أبصارنا والنهر جارٍ أمامنا بعنفوان وسرور محمود صبري بضيوفه لا يوصف. قررنا المغادرة فأصرَّ الراحلُ أنْ يدفع الحساب. أخرج من جيبه ( وكان بالقميص الصيفي والبنطرون فقط ) جزداناً صغيراً أخرج من إحدى زواياه ورقة نقدية جيكية صغيرة القيمة كانت وحيدة في تلك الزاوية فشعرت بالندم والألم لأنه منعني من أنْ أدفع الحساب وكان واضحاً لي أنَّ الرجل ليس ميسور الحال! أخذته بسيارتي لشقته وفي طريق العودة إلى مكان إقامتنا ضيّعتُ طريقي ! واصلت زياراتي له في شقته لمتابعة حواراتنا حول مسائل تخص واقعية الكم وكنت صريحاً معه وكان لا يغضب ولا يحتج معبّراً عن أعلى درجات القناعة فيما يقول وينفّذ من لوحات. غادرنا براغ وعدنا للعراق بعد سفرة أكثر من خيالية صادفنا خلالها ما صادفنا وابتعنا ما قد إبتعنا من هذه العاصمة أو من تلك فدراجة هوائية من وارشو لولدنا الطفل أمثل والكثير من الدُببة لإبنتنا قرطبة ثم قلائد الكهرب الروسي الأصلي من براغ وبودابست وبلوزات صوف لي من فيينا وملابس للأطفال ووالدتهم من هنا وهناك وأخيراً دراجة هوائية صغيرة لقرطبة من مخزن خاص على الحدود بين بلغاريا وتركيا. لا بدَّ من مفاجآت في السفر ومن المفاجآت الأخيرة أنَّ عسكري الحدود التركية مدَّ رأسه بالقرب من وجهى ثم رفع رأسه للسماء ثم وضع أصبعيه على فمه ففهمت أنه يطلب سجائر. نفضت كفيَّ أمامه ليفهم أننا لا نحمل سجائر. مفاجأة أخافتني بادئ الأمر فقد كان العسكريُّ التركيُّ حاملاً رشاشة ضخمة ومع ذلك يستجدي سجائر!

لم تنقطع مراسلاتي مع الفقيد محمود صبري. غادرتُ العراق في التاسع من شهر تموز 1978 هارباً وللعمل في ليبيا في جامعة الفاتح عاصمة الجماهيرية الليبية. واصلنا تبادل الرسائل وكرود المناسبات حتى كتبت له قبيل نهاية العام الدراسي في 1979 أننا قادمون لزيارة براغ وثلاث عواصم أوربية أخرى.

2ـ 1979

والتقينا في شقته هو وأنا فقط وكان قوري الشاي جاهزاً يتوسط منضدة تحتل مركز صالة الضيوف . حسب وصية صديق حملت لمحمود صبري من العاصمة الليبية طرابلس صندوق شاي سيلاني قوي وممتاز وزجاجة مليئة بالزيتون ثم زجاجة نبيذ ممتاز. دخلنا في معمعة واقعية الكم أنا أصول وأصاول وهو يرد ويجول ويكرُّ ويفرُّ حتى أتينا على آخر قطرة من الشاي بقيت في القوري الخزفي. كان قد أحضرَ مع الشاي نوعاً من اللحوم غير متوفر في الأسواق حينذاك قال إنه إبتاعه خصيصاً لي من مخزن مُلحق بمطار مدينة براغ يبيع سلعه بالعملة الصعبة فقط. لم أستطع إلاّ تناول القليل. حين طلب مني تناول المزيد واعتذرتُ قال إنه جلبه لي وإنه لا يأكل مثل هذه اللحوم فإذا لم أُجهز عليها من سيأكلها إذاً ؟ أحرجني الرجل وآلمني أني أكلّفه وأحمّل منكبيه الناحلين فوق ما يُطيق. نعم ، لم أرَهُ يوماً يتناول طعاماً فكيف تحمل وواصل الحياة هذا الزاهد الراهب المنقطع عن دنياه ؟ بعد أنْ أضنتنا حرارة سجالات المناقشات إقترح أنْ يُريني حديقة ومكاناً قديماً شهيراً في وسط مدينة براغ مختصاً بتقديم أفضل أنواع البيرة لا يخطر إسمه على ذاكرتي. رحّبتُ بالفكرة ووجدتها مناسبة معقولة لإخراج هذا الرجل المترهب من عزلته في صومعته البعيدة عن مركز المدينة. أعجبني المكان المتعدد الحجرات والصالات تتوسطه ساحة واسعة فيها أشجار عتيقة ضخمة وارفة الغصون كثيرة الفروع. إختار لنا مكاناً مناسباً ليس بعيداً عن وسط الساحة. طلبت لتراً من البيرة السوداء لكنه طلب نصف لتر فقط. بعد حين تعالت الأناشيد الوطنية تؤديها حناجر شباب وشابات عراقيين وعراقيات قال محمود إنهم طلبة عراقيون تقدميون يحتفلون بذكرى ثورة 14 تموز 1958. لم نمكث طويلاً حيث أتممت مشروبي وترك محمود كأسه إلى ما فوق منتصفه ! لم يكمله. يا لعفّة هذا الرجل ويا لسموّ ورفعة نفسه ! أخذني للمترو وافترقنا.

لم أستطع السفر خلال عطلة العام 1980 لأنَّ حكومة العراق يومذاك رفضت تمديد جواز سفري فبقيتُ بدون وثيقة سفر.

3ـ 1981

[ دبّرَ ] لي أهل الخير جوازَ سفرٍ غير عراقي فكتبت لأبي ياسمين أني وعائلتي قادمون صيفاً إلى براغ ضمن سياحة طويلة لعدد من عواصم أوربا. وتم لقاء جديد بيننا في شقته حسب موعد محدد بيننا. وجدت الرجل غير ذاك الرجل القوي المتين الكثير الثقة بنفسه وبما أنجز. كان مُحبطاً بل وكان قريباً من حالة اليأس مما أنجز. رأيت جدران صالة إستقبال الضيوف خالية من تلك التشكيلات والخطوط المرسومة بدقة التي دأبتُ على رؤيتها في سالف زياراتي له. قدّمتُ له ملفاً من الكارتون المقوّى فيه أبيات من إحدى قصائدي التي كنتُ أشكو فيها من وضعنا غرباء في ليبيا ومن محنة أطفالنا بعيدين عن أهلهم وذويهم ومدارسهم في العراق ثم من مستقبل مجهول لا ندري ما يُخبئُ زماننا لنا فيه. عرضتُ عليه أنْ نزور مركز المدينة ونجلس في مقهى أو مطعم فاعتذر مفضلاً البقاء في شقته. قبل أنْ نفترق قدّم لي لوحة مرسومة بالزيت على ورق خاص سميك كانت ملفوفة كإسطوانة. فتحها فأذهلني موضوعها وطريقة تنفيذها. رأيت فيها الكثير من تشكيلات وطرق تنفيد جدارية جواد سليم ( نصب الحرية ) التي تشمخ في ساحة التحرير في قلب بغداد. لما رأى حَيرتي المتسائلة قطع طريق الحيرة وقال إنه رسمها في عام 1956 أي قبل جدارية جواد سليم بثلاث سنوات في الأقل. إعتذرت عن قبولها فقال لديه نسخة ثانية ومع ذلك أصررتُ على إعتذاري ثم بقيت طوال عمري نادماً على ذلك الإعتذار! هذا يومها وأنا أجلس لأكتب ما أعرف عن هذا الرجل الذي عاش بيننا ورحل عنا كأسطورة ولا باقي الأساطير.

لم تنقطع الصلات بيني ومحمود صبري فكنا نتبادل الرسائل والمعايدات والأخبار حتى قرأت ذات يوم مقالاً حول معرض أقامه محمود صبري في لندن كتبه الأخ محمد كامل عارف في مجلة المجلة السعودية التي كانت تصدر في لندن وكان الفقيد بلند الحيدري محرر صفحتها الأدبية والفنية. كتبت توضيحات وتعليقات عميقة حول ما كتب الأخ محمد كامل فنشرها المرحوم بلند الحيدري ثم فوجئت بكتيب صغير يصلني من محمود صبري في براغ يوضح فيه ما أسماها بالإنجازات الجديدة على طريق واقعية الكم. نشر محمد كامل عارف مع مقالته تلك صورة محمود صبري واقفاً أمام لوحة كبيرة مُعلّقة على جدار تظهر فيها أطياف ذرة الهايدروجين باعتبارها آخر إنجازاته في حقل واقعية الكم وأظنها آخر ما رسم الفقيد الراحل.

إفتقدته كثيراً في سني أواخر تسعينيات القرن الماضي وأوائل قرننا هذا وكنتُ أتصل به تلفونيا ولكنْ في مرات قليلة حتى كانت رسالتي الأخيرة له في عام 2009 كتبتها وأرسلتها بالبريد العادي على عنوان شقته التي أعرف في براغ.  أخبرته أني بصدد زيارة مدينة براغ وفي نيتي الإتصال به لألتقط له بعض الصور وأجاذبه الأحاديث على أمل الخروج بمقالة أكتبها عنه .. وكان في

 خاطري هاجس الموت ! نعم ، كنتُ أخشى أنْ يضيع مني محمود صبري وهو قريب فميونيخ ليست ببعيدة عن براغ والرجل يتقدم في سلّم العمر. أتاني  جوابه في رسالة مُقتضبة قال فيها حرفياً تقريباً ( ليس لديه وقت كافٍ .. إنه متأهب لمغادرة جيكيا ) .. لم يقل مغادرة براغ بل قال جيكيا. فكّرتُ : هل كان يعني أنه سيغادر الجمهورية الجيكية بصورة نهائية ليلتحق بكريمته ياسمين التي تعمل لعقود في إحدى المدن البريطانية ؟ الزمن ووفاته قالا نعم!

كلمة لا بدَّ من قولها : كل هذا العمر الذي أمضيتُ مع الراحل محمود صبري في مرحلتين إثنتين وكل هذه اللقاءات والتجارب وما قدّمتُ له من نصائح حول واقعية الكم وما نشرتُ من مقالات وما أجريت معه من مكالمات تلفونية .. رغم ذلك كله لم يذكر إسمي أبداً فيما سجلوا له من فيديوهات وخلال أحاديثه مع صحبه الأقربين سواء في براغ أو في بريطانيا عدا حادثة واحدة قد لا تخلو من طرافة : سيّدة عراقية واحدة كانت سمعت بإسمي من محمود صبري . كنت وهذه السيدة نشارك في بعض فعاليات مؤتمر للمعارضة العراقية أقيم عام 1998 في برلين . جرى بيننا حديث عابر وما كنتُ أعرفها ولكن أخذنا الحديث لمحمود صبري فتفرّست هذه السيدة في وجهي ثم سألتني : ألستَ الدكتور عدنان المختص بكيمياء الكم ؟ كيف عرفتيني يا دكتورة لميس العماري ؟ قالت ذكرك لي محمود صبري. إذاً ذكرني الراحل ولكن أمام إنسانٍ واحد في هذه الدنيا فشكراً لك يا فقيد أنك لم تبخسني حقّي فلك الرحمة والمغفرة ومقامك في جنان الخلود.  

 

21/4/ 20123

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter