| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

 

الجمعة 20 /7/ 2007

 

 


وشم عقارب
 

عدنان الظاهر

تعريف لا غير
(
ديوان شعر للسيدة ورود الموسوي . الناشر : دار الفارابي ، بيروت ـ لبنان . الطبعة الأولى 2007 ).
يقع الكتاب في 87 صفحة وضم َّ بين دفتيه 24 قصيدة من الشعر .
أهدت الشاعرة كتابها الأول إلى والديها فقالت [[ أبي ... أمي ... إليكما يا مَن شكلتما تأريخ وجودي ..! ]] توقيع : ورود الموسوي .
مَن هي السيدة ورود الموسوي ؟ نقرأ في الصفحة الأخيرة من غلاف الكتاب ما يلي :
مواليد بابل ـ العراق ـ عام 1980
درست العلوم الإسلامية وتخرجت عام 1996
عملت في الحقل الإعلامي والصحافي منذ عام 1994
تُقيم في لندن وتحضر أطروحة الماجستير في الأدب العربي في جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية  SAOS .
في هذا الموجز من نشأة الشاعرة ما يلفت النظر حقاً : مارست السيدة ورود العمل الإعلامي والصحافي مُذ ْ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها . كم وددتُ أنْ أعرف في أية كلية وجامعة أنهت دراسة العلوم الإسلامية وأين ؟! كذلك ، لم تشأ السيدة ورود أن تحدد تأريخ وصولها إلى المملكة المتحدة / بريطانيا .

الحنين الجارف إلى الوطن
يتضمن كتاب ( وشم عقارب ) ، وهو عنوان غريب بعض الشئ ، الكثير من الإشارات والتصريحات الدالة على شدة تأثير الغربة على الشاعرة وعمق حنينها لأهلها ووطنها العراق . ففضلاً عن صيغة الإهداء المذكورة آنفاً ، كتبت ورود في عام 2006 قصيدة كاملة بست صفحات بعنوان
( ميراث ) خاطبت في مبتدئها جدها ثم إنتقلت فخاطبت أباها ثم أمها . تسلسل منطقي ومبرر من حيث تعاقب الأعمار ووضع الرجل في هرم تركيبة وهيكلية المجتمع العراقي {{ وللرجل مثل حق الأنثيين }} : الجد // الأب // الأم .
مقتطفات مختارة مما ورد في هذه القصيدة ( ميراث ) :

( جدي )
مُذ سقوطكَ من تحت عرش الله
وأنت ناظرٌ باتجاهِ المطر
نسيتَ أنَّ حصانكَ ماتَ رغمَ التعاويذ
المعلّقة بين عينيه ِ
أنَّ شاتكَ لم تسرحْ بين الذئاب
وغلتكَ إنطحنتْ فوق موائد المترفين
وأنت في ملكوتكَ من عشرين قصعةٍ من الجوع
لم تخلع شماغ حزنك
ولم تمسح ْ عنك ذنوبَ الإستغفار ...!
مذ سقوطك ساجداً كما المطر
نسيتَ أن َّ اصابعكَ محاريثَ عقيمة
وأن َّ المطرَ رذاذ ُ الأغنياء ...ّ

نفهم من هذه القصيدة أن جدَّ الشاعرة كان فلاحاً أو مزارعاً أو مالك أرض صغيرة لا أكثر من ذلك . ففي القصيدة معظم وسائل ومتطلبات الزراعة في العراق ... إنتظار سقوط المطر ... الحصان ...الشاة ... الغلة ... المحاريث ... الحنطة . كذلك نفهم أن الحفيدة رغبت أن تجعلَ من جدها رمزاً كبيرا ً موحيا ً يمثل أحدَ فقراء فلاحي العراق أو معظم سكنة بلاد الرافدين على مر ِّ العصور ، يكدح ليقدم ناتج كدحه طعاماً للإغنياء [ غلتك إنطحنت فوق موائد المترفين ] . وإنه يحرث أرضه بالأصابع ... لا من مكائن للحراثة ولا مكائن حصاد وتذرية ولا شئَ من عالم المكننة الحديثة المعروفة اليوم . كما يبين هذا المقطع أنَّ للشاعرة موقفاً إجتماعياً ( إيديولوجياً ) واضحاً فهي تميز بين من يعمل ومن لا يعمل ، بين من يكدح ويشقى ويلظى ومن يحظى ويعتاش طفيلياً على ما ينتج غيره . بين فقير كادح وغني مترف . بين جائع ومتخم . ما كانت الشاعرة على ما يبدو لي بعيدة عن عالم الريف العراقي.
بعد الجد خاطبت السيدة ورود أباها ، فهل كان الجد والد أبيها هذا ؟ يقول الحدس نعم . قالت عن أبيها ورود :

( أبي )
خلعتُ عن وجهيَ الطفولةَ باكراً
أوصدتُ عني كل َّ أبواب الفرح
حينَ لِذتَ بالغياب الطويل
تعلمتُ أنْ لا أبَ تدّخره أيامي
وأنَّ الأبوّةَ محضُ غيبٍ يرزقه اللهُ للبعض
ويُمسكهُ عن آخرين
تعلمتُ أنك جزء ٌ من أسرار أمي
وأنك صامتٌ رغم ثرثرة الحروب بين عينيك
أبي ... يا مَن يشبه كل َّ المسافرين
كل العابرين
كل المحطات الخالية
أورثتني بالغياب صمتاً
وأورثتني كل الحروب بثرثراتها ...!

نقلة بل قفزة نقلتنا الشاعرة فيها من عالم الزراعة والزراعة حياة ونماء ورجاء وسماء ومطر ... نقلتنا إلى عالم آخر مغاير ومضاد : عالم الحروب والموت والفناء التي كان يفتعلها صدام حسين والمغامرات المجنونة التي زج العراق والعراقيين بها فنالهم من ويلاتها ما نالهم كباراً وصغاراً وكانت شاعرتنا إحدى ضحاياها . طفلة تعاني من غياب أبيها الذي أجبروه على خوض هذه الحروب . غيابات طالت في مددها حتى أن الطفلة ورود قد يئست من إحتمال رجوع أبيها إليها سالماً من سوح الحرب [ تعلمتُ أنْ لا أبَ تدخرهُ أيامي ] ... فما أشدَّ لوعة ومحنة هذه الطفلة والطفلة بطبعها تميل كثيراً لأبيها . غياب أبيها عنها علمها الصمت [ أورثتني بالغياب صمتاً ] . الصمت الذي يشبه اليأس من عودة الوالد إليها. أعدّت بصمتها النفسَ لإحتمال سماع أسوأ خبر يأتي عائلتها من ساحات القتال : إستشهاده !! أليس الموتُ صمتاً أبدياً ؟ فلتمارسه الطفلة قبل وقوعه . الصمت موت والصمت إحتجاج ما أقواه ُ ، إحتجاج الطبيعة الحية فينا ، نحن البشر الأحياء ، ضد الموت المفروض علينا من قبل عُتاة دمويين مهووسين لا يمتون لعالم الإنسان بأيما صلة . موت الوالد المحتمل = صمت الطفلة قبل وقوع الكارثة . أيها الآباء ! إفتخروا بأطفالكم . أيها الآباء ! مجدوا فلذات أكبادكم .
قرأنا ما كتبت السيدة ورود الموسوي عن جدها وعن أبيها ، حيث الجد يمثل بالرمز المباشر عالمي الحياة والسلام والأرض المعطاء والحرية الفطرية الطبيعية وقوة ورحمة السماء. وحيث تمثل حقبة الأب عالم الحروب والموت ، والأرض هنا غير الأرض تلك ، مطرها دماء القتلى وأجسادهم بعضُ نبتها ... إنها مجرد ساحة حرب وفناء ودماء ولا من قوة إلا قوة المدفع والصاروخ وجبروت أوامر نظام الحكم الغاشم . فما قالت في خطابها لوالدتها لكي تُتم َّ مهمات رؤوس المثلث الحيوي البايولوجي
[[ جَدْ ـ أبْ ـ أمْ ]] ؟؟

( أمي )
رغم سقوطي على حجرك مذ ْ عشرين عاماً
وأنا معلقة بعباءة حزنك العميق
ما زلتُ أبحرُ كل َّ يوم ٍ ولا أرسو
أَلهذا يبتلعني الطُوفانُ كل َّ مسااااء ؟؟
على ضفافك ترسو النوارسُ كما البشرُ
يسندون ظهورهم المحدودبة إلى جذعِ قلبٍ
وأنت بلا رحمة يشطرك التعبُ
مثل صمتٍ يكسره العويلُ
هكذا إنكسرتِ كما المرايا
كما الأرواح المتعبة
أمي
يا من تلبسين روحي فيشطرها الحنينُ
ويغسلها الغياب أكثر
ورثتُ عنكِ عباءةَ حزنك ِ العميق
وذاتك المتعبة ...!

ما سر إنكسار أم الشاعرة ؟ هل فقدت زوجها في الحروب التي أُرغم على خوضها مثل أغلبية العراقيين ؟ هل فقدت أحد أبنائها في هذه الحروب ؟ هل من دلالة لذكر ( العباءة ) مرتين في هذا المقطع وعباءة المرأة العراقية سوداء كما يعرف الجميع [ وأنا معلّقة بعباءة حزنك العميق ] // [ ورثتُ عنكِ عباءة حزنك العميق ] ؟؟ اللون الأسود + الحزن العميق . هذه هي بعض نتائج الحروب . بعد الموت والخراب يأتي الحزن العميق وترتفع أعلام الحداد السود فوق سطوح بيوت العراقيين . الأطفال والنساء هم في مقدمة الضحايا . قصيدة سوداوية رغم ما تتضمنه من حنين وشوق للجد ( أصل العائلة ) والأب والأم . حنين مختلط بأشد درجات الحزن الذي أجادت الشاعرة في التعبير عنه . ثم ذكرت عدداً من الجمل والتعبيرات التي تدل بوضوح على التعلق بأمل مرجو وسط هذا الظلام الدامس وهذا الموت والإختناق . نقرأ : [ أبحرُ ولا أرسوٌّ ] ونقرأ [ يبتلعني الطوفان كل مساء ] ونقرأ [ ترسو النوارس ] . البحر والرسو والطوفان والنوارس تشير جميعاً إلى البحر والتوق الشديد لعالم التحرر والإنعتاق ... الإبحار ... الطيران ... الإبحار الدائم الذي لا من إرساء
بعده . وها قد أبحرت الشاعرة أخيراً فرستْ في لندن !! جاء الأمل من قلب الظلام .

كتبت كذلك عام 2006 قصيدة ( العالم يا جدي ) خصّت جدها وحده بها ، ولعلها وسابقتها من بعض أطول قصائد الكتاب . خاطبت السيدة ورود في هذه القصيدة جدها ولم تشرك أباها أو أمها ، مما يدل على عمق ومتانة العلاقة التي كانت تربطها بهذا الجد . هل كان جدها لأبيها أم لأمها ؟ لا ندري رغم أني خمّنتُ سابقاً أن يكون الجدُ لأبيها . في العراق ، لا يعيش جدودنا لأمهاتنا معنا في بيوتنا ولكن ، يعيش معنا الأجداد لآبائنا .

نماذج متفرقة مما جاء في الديوان . من قصيدة " عطشٌ يبللها ... وماءٌ لا يصل " .

( طبول )
تقرعُ طبولَ الليل
جوقةٌ غجرية ٌ من حزن
المهرجُ الباكي يلعبُ بكراتِ الوقتِ
الراقصة النادبة ُ تهز ُّ وسطَ الذاكرةِ
اللاعبُ بالنردِ يمزِّق ُ أحشاءَ الهم ِّ
قارئة ُ الفنجان ِ تقرأ ُ حزنَ الليلِ
وضاربة ُ الودعِ تفك ُّ رموزَ الحزن ِ .

عنوان القصيدة الرئيس يكفي لإقناع القارئ بما ستقول الشاعرة لاحقاً . متناقضات مضحكة ـ مبكية ، نقرأها فنبتسم ونحن نمسح عن عيوننا دموعها . متناقضات يلعب فيها المستحيلُ دور الواقع ، والتجريدي دور الملموس ، والمعتم دور الواضح . لماذا جمعت الشاعرة هذه النقائض ؟ بل وكيف تسنى لها هذا الجمع الناجح وهي لما تزل ْ في أولى أطوار شبابها وسلمها التعليمي ؟! أية ظروف إستثنائية تُنضج أبناءنا وتدفعهم للولوج في أنفاق متاهات مظلمة والقيام بمغامرات حياتية ـ لغوية ـ نفسانية ؟؟ إنهم ، كما إخالُ ، يرومون بذلك كشف الغيوب والتحقق من ماهياتهم والتعرف على ذواتهم حيث يعجز الآباء عن القيام بها . إنها ، حسب زعم هؤلاء الآباء ، ليس في وارد مشاريع زواجهم ولا في وارد إنجابهم ثم تربيتهم . يتعلم أولادنا أساساً من أقرانهم وزملائهم في المدارس ثم من أصدقائهم لا من أبائهم وأشقائهم . ماذا أردتُ أن أقول ؟ أردت القولَ أن عنوان القصيدة فيه من السخرية والتناقض الشئ الكثير .(( عطش ٌ يبللها ... وماء ٌ لا يصل ُ )) . تشكو هذه الفتاة من ظمأ ربما شديد القسوة . تنتظر أن يأتيها ماء يبلل شفتيها ويطفئ نيران الظمأ فيهما . لكن ... واأسفاه ... لا يصلها الماء المنتظر . هذا العنوان يحتمل أكثر من تأويل . ولعل المتصوفة هم من أقدر الناس على تأويله ... فمن أين يأتينا الحلاج فيسعفنا بالتأويل الصافي المحلّق في سماوات عالم التصوف ؟ ( عطش ٌ يبللها ) وقديماً قال شاعرٌ :

كالعيسِ في البيداءِ يقتلها الظما
والماءُ فوق ظهورها محمولُ

هي مبتلّة بالعطش ولكن هذا البلل لا يكفي لإطفاء ما فيها من نيران وجحيم وسعير . عطشها داخلي لكن َّ البلل َ خارجي . ماء البلل عاجز ٌ عن إختراق جسدها وبالتالي عاجز عن بلوغ مناطق العطش أو الجوع إذا كانت الإشارات تتكلم أو تعني الجنس !! حرمان الفتاة الشرقية من ممارسة الجنس والرجال كثيرون يحومون كالذباب حولها في السوق والجامعة والشارع . طيّب ، وماذا عن العنوان الفرعي ( طبول ) ؟ هل هؤلاء الرجال / الذباب هم المقصودون بالطبول ، طبول فارغة جوفاء أو جوف ؟ طبول تطن ٌّ تماماً كالذباب ولا من فعل حقيقي ؟ كلا . لطرافته ، أكررُ ما كتبت الشاعرة في مقطع ( طبول ) :

( طبول )
تُقرعُ طبولَ الليل ِ
جوقة ٌ غجرية ٌ من حزن ٍ
المهرّجُ الباكي يلعب ُ بكراتِ الوقت ِ
الراقصة ُ النادبة ُ تهز ٌّ وسطَ الذاكرة ِ
اللاعب ُ بالنرد ِ يمزِّق ُ أحشاءَ الهم ِّ
قارئة ُ الفنجان ِ تقرأ ُ حزن َ الليل ِ
وضاربة ُ الودع ِ تفك ُّ رموزَ الحزنِ .

نحنُ بحاجة إلى إعادة ثم إعادة قراءة هذا النص الجميل المتقن الصياغة والشديد التوتر لكي نضع اليد على المتضادات العجيبة التي وُفقت الشاعرة في ضمها لبعضها بحيث تتفجر السخرية من مجرد هذا الجمع النابض بالحياة والحيوية . تمثل مجاميع مزدوجات النقائض هنا جبهتين متقابلتين متعارضتين ضمهما مسرح واحد هما :
الجبهة الأولى / بشر وأفعال مقصودة / جوقة غجر + راقصة + لاعب نرد + قارئة فنجان + ضاربة ودع + مهرج لإضحاك المشاهدين .

الجبهة الثانية / نواتج هذه الأفعال في ذوات الأشخاص الفاعلين / غجرية من حزن + وقت ضائع أي خسران العمر + ندب + تمزيق أحشاء + هم + ليل حزين + رموز الحزن .

لوحة شديدة الإتقان مزاجها التناقض : الغجر حزانى وهم مَن يُطرب الناس رقصاً وغناءً . المهرج يخسر عمره هباءً . الراقصة ترقص نادبة ً حظها أو ربما حظوظ مَن ترقص لهم . تبشرهم بالموت فلا مجال للفرح والبهجة . لاعب النرد لا يلعب بالنرد وإنما يحمل سيفاً للتمزيق ... لتمزيق أحشاء الهم الذي يعانيه ... يلعب النرد طرداً أو هرباً من همومه . أما قارئة الفنجان فإنها قارئة كونية مهمتها الكشف عمّا في ليل الناس من أحزان وما تخبئه أقدارهم لهم . ليل الناس حزين لأن الناس حزانى . على الضد من قارئة فنجان الشاعرة ورود ، نجد أن قصيدة { قارئة الفنجان } لنزار قباني قصيدة أنانية محدودة الغرض : جلس الشاعر أمامها لكي تكشف له حظه مع التي يحب لا غير .
الإنسان في نهاية المطاف هو ميدان جمع النقائض . فيه تجتمع ، تتراكم فتنفجر . هو الغجري وإنه هو المهرِّج الباكي على نفسه والضاحك من نفسه على نفسه . وهو الراقص النادب حظه وهو لاعب النرد ( الطاولي كما يسميه أهل العراق ) ... وهو مدمن قراءة فناجين القهوة المرّة وضارب تخت الرمل والودع .

قبل أن أُنهي عرضي الموجز هذا لبعض محتويات ديوان ( وشم عقارب ) ، لا بد من الوقوف بتأن ٍ عند قصيدة أخرى طريفة تحمل عنوان ( صُراخ ) . ما الذي يميز هذه القصيدة عن باقي القصائد ؟ الوزن الواضح الثابت والقوافي ! نعم ، إلتزمت الشاعرة هنا بتفعيلة فعْلنْ فعلنْ / بحر الخبب / كما أحسب ، ثم نظام التقفية بحرف التاء الطويلة والمدوّرة فضمنت لقصيدتها إيقاعاً موحداً جميل الإنسياب فجعلها من حيث الشكل متفردة قليلاً من بين مجموع قصائد كتابها. هل أرادت الشاعرة ( ورود ) أن تجرّب حظها وفنها مع بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي ؟ أم أرادت أن تبين للناس أنَّ في مقدورها ركوب أو خوض بعض موجات هذه البحور ؟ نجحت في كلا الإحتمالين ، على أية حال . نسمع صُراخ ( ورود ) في قصيدتها صُراخ .

صُراخ ...!
المطرُ الساقطُ فوق غماماتي
يُعلنُ أنَّ السُحبَ امتلأتْ
وتراقصت النجماتُ على هَوَس ِ الليل ِ
وغازلنَ حدودَ النور ِِ
ولألأنَ على قِمةِ روحي كصُراخِ الذاتْ

هيّا انتشليني كالضوءِ يُهرَّبُ رغمَ حدودِ الشمس ٍ
ورغمَ رمادية ِ روحِ الكون ِ
ورغمَ الوهمِ الناشئ في عَتمةِ روحي
كالجُرحِ / القلبِ نُهدهدهُ آياتُ التسكين ِ
فيجتث ُّ حياةً بالموتِ ويُلجمُ كل َّ الكلماتْ

لا تتماهيْ فيَّ ... انتظريني
وانتظري المطرَ الصاعدَ يقرعُ كل َّ نواقيسِ الحزن ِ
ويشعلُ فانوسَ الرؤيا
لينيرَ حقيقة َ كون ٍ يتراقصُ فوقَ سني ِّ العمر ِ
ويهمسُ لي أنَّ العمرَ ليال ٍ معدوداتْ

السْحبُ امتلأتْ مطراً يصّاعدُ دمعا ً
كبلاد ٍ أضناها طولُ الجزر ِ بلا مد ٍّ
نقتاتُ فُتات َ الهم ِّ ونحصدُ وجع َ الناي ِ
الباحث ِ عن دفءٍ في النغمة ِ
عن لثغةِ حرف ٍ عن بيدرِ قمح ٍ
عن طفل ٍ لا يعرفُ معنى المأساة ْ

إيه ٍ بَلَدي فالكونُ حدودُ رؤى ً
والسْحبُ الفاضت مَطراً
لا زالت تحملُ عُكازَ النأي ِ ،
وأوجاعُ الغربةِ ما زالتْ
تتوالدُ بين دواليبِ العمرِ الصاعدِ
كالدمعِ الهاطلِ من عيني ومن عين الغيماتْ .

(
تأريخ كتابة القصيدة : 14/10/2004 )

كونية ، شاعرة كونية التفكير والتكوين والملامح والأهداف . كونية تتسرب إلى عالمها الشعري الداخلي من خلال مظاهر الكون الجبارة المحيطة بنا وبها وما فيه من عوالم نواجهها ليلاً أو نهاراً . تجد نفسها كأحسن ما تكون في خضم هذا العالم الكوني الجبار . تمتزج به ويمتزج بها فيتلابسان كتلابس الليل والنهار . المطر بالنسبة لها دموع ، دموعها بالطبع . والمطر صوت النواقيس الحزينة . لألاء النجوم هو ذاتها الصارخة . الضوء كقلبها المجروح .
هروب ... هروب كبير من مشاكل الذات الغريبة والمغرَّبة قسراً ... هروب يلتمس بعض العزاء والكثير من السلوى فتبحث الشاعرة عنهما فيما يحيط بها من أكوان وظواهر تعويضاً عن ذويها الذين لا تجدهم وقد فارقتهم وغابوا وغاب عنها الوطن . هذا الوطن الكسير المبتلى لا يفارق عينيها وخيالها . جسدت الشاعرة موقفها من الوطن في المقطع الأخير من قصيدة ( صُراخ ) . هنا الصرخة الحقيقية . كانَ التوجه والتشبث والتوسل
بالكون بأجمعه ضرورة قصوى نفسية وشعرية لإنبثاق الصرخة المدوية . منه إستجمعت قواها البشرية وأضافته إليها لكي يتعالى صوتها بالإحتجاج الذي كان مكبوتاً فيها طوال سني بقائها في العراق تحت حكم صدام وحزب البعث وما كانت حينذاك إلا طفلة صغيرة . نقرأ كي نتلمس ونتحسس عمق مأساتها وفجيعتها بالوطن :

إيه ِ بلدي فالكونُ حدودُ رؤى ً
والسحبُ الفاضت مطراً
لا زالت تحملُ عُكّازَ النأي ...
وأوجاعُ الغربةِ ما زالت تتوالدُ بين دواليبِ العمر الصاعدِ كالدمعِ الهاطلِ من عيني ومن عين الغيماتْ .

الديوان ملئ بالأحزان وندب الوطن والإحساس بثقل وطأة الغربة على الشاعرة ورود . فيه مسح شامل لما عانى العراق والعراقيون من مصائب وما لحق بهم من كوارث أيام حكم صدام حسين وحروبه العبثية . فها هي قصيدة ( حصار ) تنطق فصيحة ً عما حلَّ بهذا العراق خلال ثلاث حروب إمتدت ما بين الأعوام 1980 حتى عام 2003 .

كلمة أخيرة :
كيف تجتمع الورود بذنابى العقارب ؟ كيف يكتب الورد بسموم العقارب بدل الحبر المعتاد ؟ كيف يأتلف السم ورقة ونعومة وريقات الورد ؟ للورود الوان زاهية وروائح ذكية بينما للسم لون واحد ورائحة كريهة . لِمَ إختارت الشاعرة أن تشِم َ بوخزات ذنابة عقرب ؟ الوشم عميق يخترق جلد الإنسان ، بينما الكتابة بالحبر سطحية . الوشم يبقى طويلاً لكنَّ الحبر زائل . أليس كذلك يا سيدة ورود الموسوي ؟! هل تسمح لك ورودك أن تلامسي العقارب ؟


تموز 2007