| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

                                                                                      الخميس 19/5/ 2011



الولد كريدي

عدنان الظاهر   

لفظة كريدي هي مصغّر كردي ، أي كردي صغير . هل من علاقة بين الصديق ممتاز ، إبن الحلة الأثير واللقب كريدي ؟ بكل تأكيد . إسمه الكامل ممتاز كامل كريدي العزاوي . إذاً فممتاز عربي ابن عرب بل ووالده احد شيوخ قبيلة العزّة في محافظة بابل. كريدي مجرد اسم مثل هنيدي وعجيمي وبديوي وعريبي وكلها أسماء مصغّرة للتدليل أو للتقليل من شأن صاحبها . ما قصة هذا الكريدي مدلل والدته وأصغر بنيها وأحد أعلام الحلة في أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن الماضي ؟ إنه خلطة وتركيبة غريبة عجيبة . إبن شيخ إقطاعي أراضيه الشاسعة معروفة في شمال مدينة الحلة بإسم { كاع نادر } ونادر هو شقيق ممتاز الأوسط. من يصدّق أنَّ هذا الإقطاعي المدلل غدا أواخر أربعينيات القرن الماضي شيوعياً منتظماً في صفوف الحزب الشيوعي العراقي يعرفه جيله كما تعرفه شرطة وعناصر أمن الحلة وما أكثر مناقبه مع بعض أفرادها وخاصة ناجي البصبوص وعمران ثم مسلم وصبري. هل طبيعته قادته للشيوعية أم رومانس عابر ضرب مراهقي وشباب ذلك الزمان بعد الحرب العالمية الثانية ؟ في طبيعته عناصر ميّالة للمشاكسة والمغامرة وركوب المخاطر. أضرب أمثلة أعرفها عنه وسمعتها منه على فترات :

وقع في بئر أحد بيوت يهود الحلة وكان ما زال صغير السن فكيف حدث ذلك ؟ تناهى إلى سمعه ذات يوم أنَّ حفلة عرس ستُقام في بيت معين لليهود فصمم على حضور ذلك العرس . إقترب من باب البيت ففوجئ به تحرسه ثلة من الشرطة منعته من الدخول إلاّ للنساء . كيف تجاوب ممتاز وهل يجرء شرطيٌّ على منعه من مشاهدة عرس ؟ رجع لبيتهم القريب وسرق عباءة والدته تلفّع بها ودخل إلى بيت اليهود معززاً مكرّماً . كان ما زال صغيراً قصير القامة وكان بعض الحضور وقوفاً مما يعرقل رؤيته للعروس . تلفّت هنا وهناك فرأى كرسياً قريباً من حائط تغطيه ستارة عريضة بيضاء . صعد على الكرسي فراق له منظر العروس الغارقة في زينة العرس والمدندشة بالذهب قلائدَ وأساور وخواتم . إنتشى الطفل كأنه لم يرَ عروساً أو عرساً في حياته يومذاك. بدأت الموسيقى والغناء فطرب ممتاز وتمايل مع إيقاع الطبول لكنه شعر فجأة بقليل من إعياء الوقوف على رجليه فاتكأ على ما ورائه ظاناً أنه جدار لكنه لم يكن جداراً ! كان بئراً عميقاً سقط فيه فأوشك لفرط الفجاءة أنْ يفقد وعيه. ما كان يعرف السباحة بل وكان يخاف من السباحة في الأنهار . أخذ يصرخ ويصيح بأعلى صوته طالباً النجدة ولكن من يسمع صُراخ الطفل الفضولي الساقط في بئر يوسف بن يعقوب وضجّة الطبول والعزف على مختلف الآلات الموسيقية يصم الآذان وكان معلم الموسيقى في المدرسة الشرقية الإبتدائية إلياهو منشّي أحد العازفين. إنتبه لحسن حظ ممتاز أحد الحضور من أهل البيت فسارع هذا في رمي نفسه في البئر . بشرّاك يا كريدي ! جاءتك النجدة . وسرعان ما مُدَّ حبلٌ متينٌ طويلٌ لفّه المنقذ حول وسط الطفل الساقط المغامر غاوي الطرب وتم سحبه فأخذَ العجبُ الناسَ ! طفل غريب كيف دخل بيت العروس والدخول مسموح به للنساء فقط ؟ هل تواطأ مع الشرطة كأن رشاهم وكانت الرشوة شائعة في ذلك الزمان بل وفي كل الأزمان ! جفف أهل البيت ملابسه وشعر رأسه وألبسوه دشداشة أخرى وكاد بسببه أنْ ينقلب العرس إلى مأتم. أراد أحدهم مرافقته لبيت أبيه لكنه أبى واحتج وطلب البقاء حتى ختام الحفل وخاف أنْ يكشف سر عملية دخوله لهذا البيت. أغروه لكي يعترف وقدموا له أنواع الحلوى من مصقول وجكليت وأصابع العروس والكركري وحب الرقي المشوي لكنه أصر أنْ يبقى في البيت حتى نهاية الحفل وعندذاك وعد بكشف السر . ملعون ! سياسي منذ طفولته . قبلوا شرطه فتمتع بالحفل ولكن بعد أنْ وضعوه في الطابق الأعلى بحيث يرى الكل ولا يراه أحدٌ. بعد الحفل طالبوه أنْ يفي بما وعد لكنه قال إنه سيفي إذا أعادوا له العباءة النسائية السوداء التي مكنته من دخول بيت العروس. عندئذٍ عرفوا السر. وجدوا تحت الأقدام ( طاقية الإخفاء ) التي مكّنته من اقتحام بيت العروس ولكن بقيت أمامه مشكلة ماذا سيقول لوالدته وباقي أهله ؟ أين كان وما سر العباءة عاد بها لهم مبتلّة وعليها آثار أقدام ؟ ترك الأمر لوالدته فهو مدللها وأثيرها لأنه كان الأصغر فيهم.

ممتاز مع صبيان الحلة ومواسم الأعياد
ليس بمقدور بشر أنْ يتنبأ أو يحزر كيف خطرت على بال الصبي ممتاز كامل كريدي أن يمتطي صهوة تمثال أسد بابل الرابض أمام متصرفية لواء الحلة (محافظة بابل) ؟ ركب الأسد البابلي الذي دانت له إمبراطوريات ذاك الزمان قاطبة فجاءت المنحوتة المتقنة معبرة أبلغ تعبير عن فكرة خضوع ممالك العالم لمملكة بابل وذلك بجعل الأسد رابضاً فوق لبؤة منبطحة على قفاها كما تفعل النسوة مع رجالهنَّ . ركب ممتاز أسداً لم يركبه أحدٌ قبله من العالمين . أذلَ من أذل البلدان المجاورة وأحرق وسلب ونهب وجلب الأسرى والسبايا فإذا بصبي كريدي حلاوي يعتليه ويجعله كحمار من حمير الأعياد التي كنا نستأجرها ليوم كامل أو يومين نركبها متجهين بها إما إلى مقام عون بن علي قريباً من آثار بابل أو إلى بئر النبي أيوب على نهر الفرات في طريق ناحية القاسم الترابي أو إلى خرائب برس ومقام إبراهيم الخليل في الطريق إلى الكفل والنجف. ويا ما عذبتنا تلكم الحُمُر حين تحرن وتضرب وتتوقف عن المشي لأسباب لا أحد يعرفها. فمن قائل إنها عطشى أو جوعى أو تشكو من دبرة تؤذيها أو من زنبرانة (حشرة كالذبابة) دخلت أحد أذنيها . وما كنا نرحمها وكيف نرحم دابة وما تعلمنا بعدُ أنْ نرحم البشر ؟! كنا معها قساة ظَلَمة نضرب خواصرها بكعوب أحذيتنا ونخزها بإبرة طويلة حادة مدببة نسميها مخيط . وبعضنا يحمل عصا أو سوطاً يلسع به جانبي وكَفَل دابته . كنا قُساة . لكل هذه الأسباب كنا نفضل في بعض السنين أنْ نزور تلك الأماكن راجلين جماعاتٍ جماعات نهزج ونغني ونأكل حب الرقي المشوي وكانت جيوبنا ملأى بالكليجة المحشوة بالتمر أو الجوز واللوز والسكّر وكانت راحات كفوف البعض منا محنّاة . في الطريق كنا نتوقف لنمارس المقامرة بالجوز أو الدعبل أو اللكو لكو حيلة ماكو وكنا غالباً ما نخسر. كان ممتاز كريدي أحد قادتنا لشجاعته وقدرته على تقحّم الصعاب إذا جدَّ الجد أوتجنب المعارك الجانبية بما يملك من حس قتالي وتوثب فطري وطول فارع وعضل مفتول وقدرات مالية بفضل ما تغدق عليه والدته من تحت العباءة فضلاً عمّا يأتيه من سخاء والده وخالته أم أمين. كانت الدراجات الهوائية قليلة في تلك السنين ولكن كانت لممتاز دراجة هوائية جديدة ولما كبر قليلاً زارت والدته عائلة حلاوية كان أحد أبنائها يمتلك دراجة بخارية نادراً ما كان يستعملها وأقنعتهم أن يبيعوها لولدها ممتاز وتمت الصفقة بنجاح. هل يتهيب ركوب دراجة نارية من لم يتهيب من ركوب الأسد البابلي ؟ سرعان ما اعتلى ممتاز سرج الدراجة وعبأها بالبنزين من محطة للوقود تقع في محلة الكراد في الحلة ثم قادها بسرعة جنونية وما كانت معه إجازة سوق ولا خبرة سابقة بقيادة دراجة بخارية ظاناً أنْ لا فرق بين دراجة هوائية وأخرى بخارية . وحصل المتوقع ! عادوا به للبيت ليلاً في حالة يُرثى لها . جروح في رأسه وذراعيه ورضوض هنا وهناك . خبأته والدته عن أعين أبيه وكتمت خبر الحادثة ثم استأجرت صباح اليوم التالي عربة [ ربل ] يجرها حصانان وأخذت ولدها الجريح إلى مستشفى الحلة الملكي . كانت ما زالت آثار جروح سقوطه من على ظهر أسد بابل عميقة وهي ظاهرة على طول ساقه الأيمن حتى اليوم . فأضيفت لجروح الركوب الأول جروحٌ جديدة نتيجة الركوب الثاني مع الفارق : نعم ، هناك ركوب وهنا ركوب ولكنَّ الركوب السابق كان على ظهر أسد من الكونكريت البارد بينما الركوب الثاني على سرج دراجة نارية. بئرُ مَنْ ومقام أو ضريح من نزور في أعياد اليوم يا ممتاز ؟ ألا تشتاق لمدينة الحلة ولمغامرات طفولتك وصباك ورجاحة عقلك زمان شبابك وانحيازك إلى صف الفقراء والكادحين والمظلومين في الأرض وأنت المدلل المرفّه إبن الأثرياء ؟ أين دراجتيك الهوائية والنارية وأين سيارتك الجيب ورشاشة السترلنك التي هددت بها ذات يوم أحد الشرطة المخبرين ؟

ماذا عن بقية الأيام العادية حيث لا عيدٌ للفرح إنما عطلات نهاية الأسبوع في يومي الخميس والجُمعة ؟ إذا كان النهار مشمساً والجو رائقاً ودوداً أخذ بعض صحبه وتنّكب طريق بابل مشياً على الأقدام ( خمسة كيلومترات فقط ) يخب بدشداته البيضاء الكودري صافعاً أسفلت الشارع بصفقات نعاله ذي الإصبح الكبير الوحيد وفي خاصرته يُخبئُ مسدسَ برونيك أو ربع وبلي لا يستخدمها إلاّ لتهديد شرطة الأمن إذا ما ضايقوه أو اعترضوه أو حاولوا تفتيشه فما كان يعرف الهرب أمامهم وكيف يهرب الشجاع قائد الجموع من مواجهة عناصر أمن الحلة وكان بعضهم خدم في ديوان والده الشيخ كامل كريدي العزاوي ؟ هيهات هيهات.

كان يميل بشكل واضح لزيارة آثار برس ومقام إبراهيم الخليل وكان هناك سبب لذلك : كانت أراضيهم تمتد من جنوب الحلة حتى مقام الخليل أي أنه يمشي في إمبراطورية العم الشيخ كامل كريدي كأنه يمسحها ويعدد الدونمات الشاسعة لأراضيهم التي لم يقبض منها شيء يُذكر . غادر العراق صيف عام 1952 تاركاً الوطن والأهل وإرث والده الكبير وظل في المانيا بعيداً عن الحلة لعقود كثيرة وظلَّ ذاك المتعفف والنزيه و الزاهد بالدنيا وما فيها مكتفياً بدراسته حيناً ومزاولاً بعض الأعمال أحياناً أخرى منها عمله لفترة في سفارة عدن في برلين. أما قصصه ومحنته المزدوجة في العهدين الملكي والبعثي مع جواز سفره العراقي فتلك قصة تطول وتتشعب ليته هو يكتب عنها أو يزوّدني بتفاصيلها لأكتبها نيابةً عنه فالرجلُ متواضع وخجول وضنين بكشف تفاصيل حياته.

لعل إحدى مغامراته التي بقيت حاضرة ملتهبة في ذاكرته ووجدانه إنما تصلح كفيلم سينمائي من أفلام عصابات الكاوبوي فإنها حقاً مثيرة أرادها ممتاز كوسيلة لتمضية الوقت وتصريف الضجر فانقلبت إلى دراما أشعلت الجو السياسي في الحلة وكان العراق يومذاك يموج بالإضطرابات السياسية والمظاهرات والإحتجاجات فعنَّ للمراهق الذي أبعده ذووه إلى قرية تابعة لأراضيهم حتى تهدأ الأوضاع وترتاح عائلته من مشاكسات شرطة الأمن وإلحاحها بالسؤال عنه ... أبعدوه في حالة تشبه النفي السياسي . كان مسروراً بالأجواء الفلاحية ـ مثل تولستوي ـ يلتقي بشلّة من الفلاحين في الليالي على النيران والقهوة وحكايا الفلاحين وبطولاتهم ومناوراتهم للتخفي عن أعين شرطة العهد الملكي فضلاً عن ركوب الخيل وصيد الدرّاج وقتل الثعالب والأرانب البريّة. كانت تلك الأيام أيام أعياد لفلاحي مقاطعة آل نادر حيث الطعام اليومي وفير وبين يوم وآخر ينحرون خروفاً يحشونه ويشونه على الحطب. لكنه قرر ذات ليلة أنْ يترك المضيف والسهرة الحلوة فاختار مجموعة من رجاله المسلحين وحمل رشاشته السترلنك وقادهم في الظلام الدامس نحو الطريق العام الذي يربط الحلة بمدينة الديوانية. بينما هم سائرون يغنون ويهزجون ويهرجون لاح لهم من بعيد ضوء سيارة قادمة من جهة الديوانية. ظلت العُصبة واقفة في وسط الشارع العام حتى دنت السيارة منهم . شهر ممتاز سلاحه وأطلق في الهواء صلية من رشاشته فتوقفت السيارة التي رآها تحمل الرقم 86 ديوانية . مدَّ رأسه متفحصاً الجالسين في مقعد السيارة الأمامي. إستفزه المشهد! رأى ضابطاً كبيراً يحتل المكان المجاور لسائق السيارة بينما شغلت مجموعة من النساء مقعد السيارة الخلفي. تراجع قليلاً وأعطى للسائق إشارة المضي في إتجاه الحلة. ضحكت الشلّة وهرّجت وعادت للمضيف منتصرة منتشية أنها أرعبت الجيش العراقي الباسل وقد رأوا مبلغ ذعر الضابط الكبير بنجومه وتيجانه. هاجت الحلة وماجت حتى وصلت الموجة إلى قرية التاجية المجاورة لمركز أراضي آل نادر وكان أصحابها من شيوخ خفاجة من آل السماوي. جاءت الشيوخ إلى مضيف آل نادر فاتصلوا بادئ ذي بدء بسركال العم كامل كريدي السيد عبيد الردّام وقصوا عليه الخبر الذي هزَّ حكومة نوري السعيد متسائلين هل سمعوا أو عرفوا بخبر العصابة المسلحة التي كانت ليلاً تعترض الطريق الذي يربط الحلة بمدينة الديوانية. لاذ ممتاز بالصمت بعد أنْ نفى علمه بمثل هذه الحادثة. كيف لا يلوذ بالصمت وكان هو بطل العصابة المسلحة المزعومة يحمل رشاشة ويلف رأسه بيشماغ على طريقة فلاحي الفرات الأوسط. هذه واحدة من بطولات ممتاز وطلعاته العجيبة.

نشاطات ومساهمات ممتاز السياسية والطلابية ومهرجانات الطلبة والشبيبة والسلام .
فُصل عام 1951 لأسباب سياسية من دراسته في ثانوية الحلة للبنين وكان ذلك أول الغيث. في العام التالي أكمل دراسته ونال شهادة البكلوريا فأعد نفسه لمغادرة العراق للدراسة خارجه. وفيما يخص المهرجانات والمناسبات الطلابية فقد ساهم ممتاز بنشاط وحيوية في العديد من هذه اللقاءات والمؤتمرات التي انعقدت في بعض العواصم الأوربية والتقى خلالها بالكثير من الشخصيات المعروفة اليوم على الساحة السياسية في العراق. كما أنَّ له صداقات حميمة مع العديد من أقطاب السياسة العراقيين والعرب وهو بهذا يشكل كنزاً نادراً يحوي نوادر المعلومات لو تسامح قليلاً وأفضى بها للرأي العام العراقي على وجه الخصوص. سرَتني ذكرياته مع مهرجان الطلبة والشبيبة الذي انعقد عام 1953 في العاصمة الرومانية بوخارست . شارك في هذا المهرجان حين كان ما زال مقيماً في العاصمة النمساوية فيينا . كان هناك مشاركاً إبن الحلة رجل القانون ورجل السلام الدكتور صفاء الحافظ الذي قتله البعثيون ورفيقه الدكتور صباح الدرّة . لعل من أطرف ما رأى هناك من أحداث هي مشاركة الراقصة المصرية صاحبة فريد الأطرش تحية كاريوكا التي قدمت كلمة هاجمت فيها ثورة يوليو عام 1952 وحكم عبد الناصر. وله كذلك مشاهدات ومناسبات طريفة تخص الرئيس العراقي الحالي مام جلال طالباني الذي كان يساهم في هذه المهرجانات بهذه الصفة أو تلك. لم يكن مهرجان بخارست هو المهرجان الأول والأخير إذْ أُنتدب مرتين آخريين للمشاركة في مهرجانين مماثلين أحدهما كان عام 1955 في العاصمة البولندية وارشو والثاني في موسكو عام 1957 وله فيهما ذكريات طويلة عريضة لا تخلو من طرافة ومفاجآت.

سياحات إبن بطوطة الحلاوي
 ينطبق على أخينا ممتاز كريدي تماماً ما قال الشاعر إبن زُريق البغدادي :

في كل يومٍ له حِلٌ ومُرتَحلٌ           مكلّفٌ بفضاء اللهِ يذرعهُ

( أظنُّ أنَّ في عجز هذا البيت نقصاً إذْ سقطت كلمة لا أتذكرها فمعذرة )

أو قول المتنبي :

على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحتي           أوجهها جنوباً أو شمالا

هذا جدول مختصر مبسّط في عدد وجهات ترحاله والمدن والأقطار التي أقام فيها متنقلاً ما بين العمل والدراسة :

5ـ1

فيينا : 1952 / 1955

أغرق ممتاز نفسه في فيينا في عالم السياسة يسارياً معارضاً وأحد قادة التنظيمات الطلابية في النمسا حتى سحبت حكومة العراق الملكية جواز سفره والذ قام بسحب هذا الجواز هو القنصل العراق يومذاك السيد حكمت الجيبةجي الذي كان يشغلُ حجرة صغيرة في مبنى السفارة المصرية في فيينا التي كانت حينذاك تمثل المصالح العراقية. وبعد ثورة 14 تموز 1958 في العراق طلب منه الدكتور صفاء الحافظ أنْ يقدم شهادته بخصوص هذه الحادثة أمام محكمة الشعب في بغداد فامتثل للطلب .

شغلته السياسة ووفرة ما كان يأتيه من أهله من أموال فلم يكترث كثيراً للدراسة وعاش تلك الفترة بشرها وخيرها كالنحلة أو الفراشة متنقلاً من جو إلى آخر ومن ضياء إلى ظلام . وكان أحد أقرب أصدقائه إليه يومذاك السيد حسن ذو الفقار وما زالا صديقين ودودين.

غادر النمسا متجهاً إلى ألمانيا يحمل جواز سفر عراقي مزوّر ولهذا الجواز قصة طويلة .

5ـ2

مدينة كولن الألمانية : 1955 / 1966

لعل حقبة كولن هي من أكثر فترات حياة ممتاز صعوبة وتعقيداً. لا يملك أي جواز سفر وتحويلات الأهل توقفت لأسباب كثيرة ومجالات العمل ضيقة ومحدودة. لذا لم يتمكن من مواصلة الدراسة بل كان ضمان مورد لأدنى متطلبات العيش هو الشغل الشاغل والمطلب الأكثر إلحاحاً. مارس أعمالاً لم يمارسها إلاّ العمال الأسبان واليونان ومن لفظتهم أوطانهم لهذا السبب أو ذاك. عمل لقاء أجور زهيدة لساعتين أو ثلاث فقط في اليوم الواحد. عانى في كولن ما عانى وله هناك ذكريات عزيزة على قلبه مع أناس بسطاء من طبقات المجتمع الدنيا ومن كلا الجنسين وكان ـ مثل دون كيخوت والمسيح ـ يقتّر على نفسه ويعاني من الحرمان لأجل أنْ يساعد أولئك الناس الفقراء والتعساء ويؤثرهم على نفسه.

5ـ3

لايبزك : 1966 / 1971

هنا في مدينة لايبزك في جمهورية ألمانيا الديمقراطية تحسنت واستقامت ظروف ممتاز كريدي حيث حصل على منحة دراسية فواصل دراسته الجامعية ونال الشهادة الأولية ثم الماجستير.

5ـ4

مترجم ومحرر في وكالة الأنباء الألمانية في برلين الشرقية 1972 / 1976

تخلل ذلك الكتابة في الصحف العربية

5ـ5

1975 ـ 1976 / عمل في سفارة اليمن المقراطية في برلين الشرقية

5ـ6

في جامعة لايبزك، إعداد رسالة الدكتوراه : 1978 / 1982

5ـ7

في مدينة لايبزك الألمانية : 1983 / 1989 . العمل في الصحافة

5ـ 8

 لايبزك : 1992 : إكتسب الجنسية الألمانية وظل مقيماً في هذه المدينة حتى اليوم ( مايس 2011 ) .

هل كانت حياة ممتاز كريدي حياة عمل ودراسة وسياسة فقط ؟ كلا ، شغل الرومانس جانباً هاماً من حياته في الطور الألماني. لقد نهج وفق المقولة الشهيرة : ساعة لربك وساعة لقلبك. أوشك نتيجة واحدة من مغامراته الرومانسية أنْ يهجر ألمانيا ويقيم في بلاد اليونان. وفي مغامرة أخرى كان ممكناً أنْ يقيمَ في مصر. المغامرات القوية كانت تزعزع جذور وأركان استقراره وطبعه الجسور المغامر يهئّ له الأجواء ويمهد أمامه السبل فتهون في عينه الكبائر. من قفزته الأولى خلّفَ ولداً لكم تمنيت أنْ أراه لأتقصّى فيه وجه ممتاز وملامح أشقّائه. في مدينة لايبزك له العديد من الأصدقاء عراقيين وعرباً ومن جنسيات أخرى لعل الدكتور زهدي خورشيد الداوودي هو أقرب الجميع إلى شغاف قلبه.  زرتهما صيف العام الماضي وقضينا معاً خمسة أيام حفلت بالمناسبات الطريفة واللقاءات الحميمة ولا سيما مناسبتي عشاء في حدائق دار الصديق زهدي الداوودي واستقبال السيدة أم أميرة الحار لنا وما أعدت لنا من أطعمة بعضها عراقي صميم [ دولمة ] ومشويات على الفحم مع كافة لواحق ومرفقات مثل هذه الولائم من فاكهة الصيف وما حُلل وحُرمَ من المشروبات التي تُنعش الروح لكنها تطمس العقل . سأزورهما ربما هذا العام فشوقي لهما جدَّ كبير.

 

مايس 2011
 

 

 

free web counter