| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر

 

 

 

 

الاربعاء 18 /4/ 2007

 

 

المتنبي وبعض الثائرين
(2)

عدنان الظاهر

وصلتُ بيتَ الصديق المتنبي على سطح كوكب مارس حيث يُقيم لاجئا ً على حكومة هذا الكوكب الناري مسنودا ً بنظام الضمان الإجتماعي الكامل سكنا ً وطعاما ً وشرابا ً وعلاجا ً . وجدته قلقا ً في إنتظاري . بادرني بالسؤال فيم تأخري لربع ساعة ٍ من الزمن وبعض الطرق ملغومة تعترض بعضها الآخر عصابات القتل والنهب والسلب وحواجز التفتيش المشبوهة والمفخخة ... ؟ قلت لا عليك ... الموت كالحياة قسمة وضربة حظ عمياء ... خبط َ عشواء كما قال أخوك الشاعر زُهير بن أبي سُلمى كما تعرف . هز َّ صاحبي راسه وأخذ يتمتم بصوت جد َّ خفيض (( رأيت ُ المنايا خبط َ عشواءَ من تُصبْ // تمته ُ، ومَن يسلم ْ يُعمّرْ فيَهرم ِ )) . لا تقلق سيدي الشاعر الدائم القلق ... القلق صاحب ورفيق الشعراء ... إني وصلتك وها إني معك على كوكب المريخ ، تمام ؟ قال تمام ، لا فُض َّ فوك . هل نتمشى متجولين في بعض مناحي هذا الكوكب الغريب الضارب لونه للحمرة ؟ قلت لكنه كوكب ناري شديد الحرارة نهارا ً شديد البرودة ليلاً . قال هذا ما تعرفونه أنتم سكنة الأرض عنه . وفي ما تعرفون عنه الكثير من الخطل والخطأ . كيف يا متنبي ... حيرني كلامك هذا ؟ قال هناك منطقة وسط جوها معتدل ربيع دائم تقع وتفصل بين هاتين المنطقتين المتطرفتين حرارة ً وبرودةً . هناك سَكني وأرض مُقامي . قفز في ذاكرتي بيت شعر للمتنبي قال فيه (( ما مُقامي بأرض ِ نخلة َ إلا ّ // كمُقام ِ المسيح ِ بين اليهودِ )) . ولما لم أكن مستعدا ً أن ْ أصدّق ما قد إدّعى المتنبي بشأن مناطق الربيع على سطح الكوكب الناري الجبّار رجوته أن يأخذني لبيته المكيّف الحرارة صيفا ً وشتاءً على نفقة الدولة صاحبة الضيافة. خلعت في حجرة الإستقبال المتواضعة سترتي وجلسنا نقابل بعضنا البعض الآخر على مائدة ترتفع نصف متر فوق مستوى الأرض ، دائرية متوسطة المساحة خشبها أسود عار ٍ من شراشف وأغطية سوى منفضة سجائر كانت ملأى بالأعقاب . ماذا سنشرب يا متنبي ؟ قال بل أفضّل أن نأكل قبل أن نشرب . نظر في ساعة معصمه ( ماركة رولكس الثمينة جدا ً ) ثم قال الساعة الآن تقترب من الواحدة بعد الظهر . الطعام جاهز . ساعدتني صديقتي مساء أمس في إعداده ثم وضعته في الثلاجة . هو الآن جاهز لا يتطلب سوى أن أحميه لبضعة دقائق في Microwave جهاز الموجات المفرطة في القِصر
سأُعد ُ لك بعد الطعام كل ما يحلو لك من مشروبات ... المحلل منها والمحرم ... البارد والحار . وبالمناسبة ... هنا على كوكب المريخ لا من حلال ولا من حرام . ليست لدينا قوانين تحرّم وتحلل . القانون الأوحد هو ذوق الإنسان ... رغباته ... قراراته ... طباعه ... عاداته ... يفعل ما يشاء شرط أن لا يُسئ إلى سواه . لا يضرب لا يقتل لا يسرق لا يقبل رشوة لا يكذب لا يزوِّر لا يتجسس لحساب حكومات كواكب أخرى وخاصة التجسس التقني والمالي . قلت إنما هذه جنة يا متنبي ... هذه إحدى جنات الخلد . قال أصبت َ ، لكنها ليست الجنة الوحيدة وليست الجنة المثلى . هناك بالقرب من كوكبنا جنات أخَر أفضل وأكبر مساحة ً وأكثر عطاءً وأغدق نِعما ً فحورُ العين هناك لا عد َّ لهن َّ ولا حصرُ . تجرأت أن أسأل صاحبي وماذا عن الولدان المخلّدين ؟ قال لا من ولدان ٍ مخلدين على سطوح هذه الكواكب ... الشذوذ الجنسي غير معروف. قلت لكن ْ ليس لهذا الأمر من علاقة بالشذوذ الجنسي يا متنبي !! ليس الولدان المخلّدون إلا ّ ملائكة ً من الذكور الفتيان لا يكبرون ولا يشيبون وليسوا من ذوي الإربة ولم يطّلعوا على عورات النساء ، وجوههم آيات في الحسن والجمال واجبهم خدمة أصحاب الجنان والنعيم الخالد من المؤمنين يقدمون لهم ما لذَّ وطاب من عسل وألبان وخمور الجنة بأطباق َ من ذهب وتحيتهم فيها [[ سلام ٌ سلام ٌ ]] لا يسمعون فيها لغوا ً ولا تأثيما ً ولا من صداع في خمرتهم . قال ومن يا تُرى يخدم النساء المؤمنات في هذه الجنان ؟ أليس فيها نساءٌ مؤمنات أم أنَّ هذه الجنات قد أُعدت للمؤمنين من الرجال فقط ؟ أوقعني هذا السؤال الوجيه في ورطة حقيقية . ليس لدي جواب عنه . لم يتطرق أحد ٌ لهذا الموضوع من قبلُ . أعرف كما يعرف غيري أن النساء المؤمنات القاطنات في الجنان قد أُعددن لغرض واحد لا غير : أن ينكحهن الرجال المؤمنون ، فهن َّ قاصرات الطرف حورٌُ عين ٌ .... ( عِين ... جمع عَين ... عيون ) بياضها واسع المساحة ( حور ... جمع حوراء ) . لا يجرؤنَّ على رفع أبصارهن َّ نحو الرجال . هل في ذلك إثم ؟ لا أحد يدري . حور ٌ عين ٌ لزواج الرجال وولدان ٌ مخلّدون لخدمة هؤلاء الرجال . تلك إذا ً قسمة ٌ ضيزى ضيزى أرفضها أرفضها أرفضها . كان صاحبي مصغيا ً لي بكل حواسه لكأنه لم يسمع بمثل هذه الأمور من قبل . أطرق هُنيهة ً ثم قال جناتنا تختلف عن هذه الجنات . الجنات أشكال وفئات ومنازل ونجوم كالفنادق الراقية وأكثر . لكم جناتكم ولنا جنّاتنا ، لكم قوانينكم ولنا قوانيننا ، لكم حكوماتكم ولنا حكوماتنا ، لجنّاتكم نساؤها ولجنّاتنا نساؤها ... صار معلوم ؟ صار معلوم ... أجبت . قال هذا حديث جدّي ومعقّد ، لِم َ ورّطتنا به يا رجل ؟ ما لنا وللجنان ؟ دعنا نعيش حياتنا الدنيا الفانية ولا من حياة بعدها... لا قبلها ولا بعدها . كنت ُ أنتظر أن أسمع من صاحبي هذا الكلام الخطير منذ قرون . تنفّست ُ الصُعَداء ... تنهدّت ُ ثم سألت أين الطعام ؟ قتلتنا هذه الأحاديث الثقيلة والمفرطة بالجدية.
بعد الطعام نصف البارد ـ نصف الحار قررنا سوية ً أن نواصل حديث الثورات ولا سيّما الفاشل منها وأن نناقش أسباب هذا الفشل . قال المتنبي وما كان جادّاً : في أي موضوع كنا نتكلم أمس ؟ في موضوع فشل ثورة العلوي ( محمد بن علي ) قائد ثورة زَنج البصرة . أنبأتني أنك كنت وما زلت َ مع هذه الثورة ومع الذين قاموا بها فشجّعني موقفك هذا أن أواصل حديثها وأخبارها معك . قال هيّا ، توكّل وتحدّث ْ وإسأل عمّا بدا لك . ماذا تشرب ؟ سألني مُضيّفي . كأس ماء معدني بارد ولا غير . ثقل طعامك على معدتي . قلت ُ لصاحبي سؤالي واحد ٌ محدد ٌ فأجبني عليه بإختصار شديد يا متنبي . قال وهو كذلك ... لك ما تريد . هات ، ما سؤالك ؟ ما أسباب فشل العديد من الثورات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية على مر ِّ العصور وإحداها ثورة محمد بن علي صاحب زَنج البصرة ؟ إبتعد عني قليلا ً ووضع ساقا ً على ساق ، أشعل سيجارة ( كّنْت ) أمريكية ، تأملها جيدا ً ، عب َّ منها نَفسا ً عميقا ً ثم قال : لفشل كل ثورة أسباب خاصة بها وبظروفها وبزمنها وزمن توقيت تفجيرها ونوعية الرجال القائمين بها ومن يقودهم ثم على مّن ثاروا وما قوة خصمهم ؟ لكن ْ وبشكل عام يمكنني القول أن َّ عناصر ثلاثة في أقل تقدير تقرر مصائر الثورات والعصيانات. ما هي هذه العناصر يا متنبي وكنت َ أنت َ يوما ً واحدا ً من الثوّار ضد سلطة بعض خلفاء بني العبّاس في بغداد ؟ العنصر الأول هو قوة الثورة برجالها وما تحمل من سلاح وما يتوفر لديها من أموال ثم قناعة هؤلاء الرجال الثائرين بعدالة أهداف ومهام ثورتهم وإستعدادهم للموت من أجل بلوغها مهما كانت الصعاب . العنصر الثاني الذي يقرر مصائر مثل هذه الثورات يكمن في قوة السلطة أو الدولة التي ثار الثوار ضدها . ولقوة السلطة مقومات وشروط وإمكانات على رأسها المال المتوفر في خزائنها وما في حوزة جندها من أسلحة تتفوق بها على أسلحة الثائرين . ثم التوازن الكمي بين أعداد جنود الحكومة وعدد أفراد قوات الثائرين . أما العنصر الثالث فإنه عنصر مترجرج ٌ غير ثابت لكنه يقرر في المواقف الحرجة مصير الجهتين المتصارعتين : الثوار والسلطة. ما هو هذا العنصر المترجرج يا أبا الطيب ؟ بقية الناس ، الرعية التي تقف على الحياد في إنتظار نتيجة المعركة ولصالح أي طرف ستنتهي . إنها تراقب سير الأمور ، وحين تحس أو تقتنع أن هذا الطرف سيتغلب على ذاك تنحاز إليه فيضعف الطرف الآخر ... ينهزم مندحرا ً مكسوراً . هذه هي الكتلة العظمى الصامتة التي تقرر مصير الأحداث الكبرى في الأوقات الأكثر حراجة ً وقت إندلاع الحروب . الثوار / السلطة / الكتلة المتربصة ... هذه هي العناصر التي تقرر المصير وتحسم المواقف . لكن َّ ثمة َ أمرا ً آخر َ قد يلعب أدوارا ً ما في حسم بعض المواقف لكنه غير مضمون . إنه العامل الخارجي ، أعني الأطراف الإقليمية أو الدولية أو الحكومات أو الشعوب التي تحيط بمنطقة الصراع الأصل في بقعة ما . [[ تذكرت ُ مواقف العربية السعودية والأردن ومصر وتركيا من إنتفاضة آذار 1991 التي بثت الرعب في قلب الرئيس الأمريكي المستر بوش الأب فأجبرته أن ينقلب على وعده بمساندة الثورة ضد نظام صدام حسين الأمر الذي مكّن هذا من تدمير ثورة الجنوب وكردستان وقهر الثائرين بوحشية دموية منقطعة النظير ]] . حين أفضيت لصاحبي الشاعر المنظّر بهذا الأمر قال الأمثلة كثيرة ... قديما ً وحديثاً .
سرحت ُ ، سرحت ُ بعيدا ً وعميقاً فتساءلت : تُرى ، كيف إنتصر إنقلابيو الثامن من شباط عام 1963 على عبد الكريم قاسم وحكومته وجيشه ودولته وهم ما كانوا إلا ّ شِرذمة صغيرة عُدّة ً وعددا ً مقارنة ً مع الجيش العراقي ؟ سألني صاحبي وقد إنتبه لشرودي وسَرَحاني عن سبب هذا الشرود فقلت لا شئ ... لا شئ يا أبا الطيب ... إنها مجرد خواطر تمرُّ على الإنسان أحيانا ً فتعكّر مزاجه وتجعله يفكّر وينظّر تماما ً مثلك . قال وهل إنتهيت َ إلى نتيجة ترضيك ؟ كلا ، لم أنته ِ بعدُ !! القصة طويلة يا أبا الطيب ... جدا ً طويلة ومعقدة !! غصت ُ أعمقَ في ذكرياتي وتفكيري بأمر إنقلاب الثامن من شباط 1963 فتساءلت كم جهة ٍ تُرى نشطت وتعاونت مع الإنقلابيين حتى حققوا نجاحا ً سريعا ً مذهلا ً في غضون يومين لا أكثر !! ست دول محيطة بالعراق كانت جميعها ضد جمهورية الرابع عشر من تموز ، ثم الأجهزة السرية والعلنية لدول كبرى لها مصالح حيوية شتى في عراق ما بعد عبد الكريم قاسم . بريطانيا وأمريكا ثم حلف بغداد . أردت أن أخفف العبء الثقيل على كاهلي قررت أن أُشرك صاحبي في هذه المسألة العويصة فشرحت له ما أعرف عن قوة وحقيقة هذا العامل أو العنصر الذي أسماه بالعنصر الخارجي الذي غلّب كفة المتآمرين الإنقلابيين فأسقطوا جمهورية 14 تموز وحققوا نصرا ً كاسحاً سريعاً . نعم ، طرحت عليه أمر الكتلة الوسطية الكبرى الصامتة وكيف وأين كانت خلال الساعات الحرجة التي سبقت إنهيار نظام قاسم ؟ كما سبق وأن قلت ُ لك ، قال ، كانت تقف إبتداء ً على الحياد منتظرة وضوح المواقف ولمن ستكون الغلبة . لا يُستثنى الجيش العراقي من هذا بكافة وحداته وقطعاته وقادته وأغلب جنده وضباطه . إنضمت غالبيتهم الكبيرة إلى صفوف الإنقلابيين بعد إعدام قاسم في دار الإذاعة والتلفزيون.
شعر كلانا بالتعب جرّاء َ مرارة الذكريات وجسامة الأحداث التي سبقت ورافقت وأعقبت إنقلاب شباط 1963 وما حدث من مجازر دموية وإعتداءات وقتول وهتك للأعراض وتفريط بحقوق العراق النفطية نتيجة إلغاء حكومة الإنقلاب للقانون رقم 80 . هل نرتاح قليلا ً يا متنبي ؟ لم أسمع جواباً . كان الرجل غافياً . كان شعوره بالتعب أضعاف شعوري .
تركته ينام فشغلت نفسي بإعادة قراءة كتاب الدكتور أحمد عُلَبي (( ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد )) . جلبت الكتاب معي كمصدر أحاجج المتنبي بما فيه ومرجع لما أناقش معه من أمور تخص ثورة زنج البصرة. رأيت في الكتاب ما يعزز نظرية المتنبي بشأن نجاح وفشل الثورات عامةً . هل أقفل موضوع ثورة الزنج التي أخفقت وإنتهت بتمزقها ومقتل قائدها علي بن محمد وأفتح مع صاحبي جبهة ً أخرى ليست بعيدة عن موضوع الثورات والعصيانات وأسباب فشلها أو نجاحها ؟ أجل ، ذلك أمر آخر جد َّ طريف . سأفتح مع صاحبي إذ يصحو من نومه قضية نزاع معاوية مع الخليفة علي وحرب صفين وعوامل إنتصار الأول على الثاني . سأقول له ما قاله الكثير قبلي من علماء المسلمين ومفكريهم ورجال دينهم وفقهائهم من أن َّ المسألة برمتها ما كانت إلا ّ صراعا ً بين الدنيا والدين . إنتصرت الدنيا بمعاوية على الدين بعلي . وكانت هذه إرادة ناس ذلكم الزمان ولا سيّما سراتهم ورؤساء قبائلهم والمتنعمين في الأرض. كان هؤلاء رجال دنيا وكانوا يفسرون الدين حسب أهوائهم خاصة وأن القرآن حمّال أوجه ... بل الدين كله يحتمل التأويل والتفسير والإختلاف . أثرياء القوم مع معاوية وفقراؤهم مع علي بن أبي طالب !!
حين أفاق المتنبي وكنت ُ لم أزل ْ ضيفه طلبت منه كأس عصير برتقال طبيعي بدون سكر . قال ما أيسر ما طلبت ، أضاف ، هل تشعر بجوع ؟ كلا ّ ... شبعت ُ قهرا ً . شكراً . قال أين كنا في أحاديثنا ؟ موضوع الثورات وأسباب فشلها أو نجاحها . قال وهل لديك حول هذا الموضوع من جديد ؟ أجل ، موضوع الخلاف بين علي ومعاوية وأسباب إنتصار هذا على خليفة المسلمين المنتخب بالمبايعة . قال هذا موضوع فرغ منه المسلمون وغيرهم من الباحثين والمؤرخين منذ زمن حتى لم يبق فيه ومنه أمر يستحق النقاش . ثم قال بإختصار : كان صراعا ً بين الدين والدنيا ورجّح ناس ذلك الزمن كفة الدنيا على الدين والدنيا مصالح شتى .
قلت وهل يسمح سيدي لي بسؤال أخير ؟ قال تفضلْ . وهل كان صراع صاحب الزنج مع سلطان خليفة بغداد كذلك صراعا ً بين الدين والدنيا ؟ قال كلا ّ ، كانت ثورة ضد فساد دولة الخلافة وتبعيتها للترك قادة ً وخدما ً في حاشية الخليفة . كان صراعا ً في الدين . الدين الذي إرتآه علي بن محمد والدين الذي كان سائدا ً في منظومة سلطان الخلافة العباسية . خلاف في التفسير والتطبيق والدين واحد هو الدين الإسلامي .
أجهدنا النقاش المتشعب وأضنانا . أخذنا فترة إستراحة قصيرة غفا خلالها صاحبي كعادته بعد أن طلب مني أن لا أدعه ينام لأكثر من نصف ساعة .
صحا فسارع لمطبخه وأتانا ببعض المأكولات الخفيفة مع إناء شاي ساخن جديد تفوح منه روائح الهيل والقرنفل ومسحوق القرفة ( الدارسين ) . عببنا ما إستطعنا من أكواب الشاي مع بعض الحلويات فإستعدنا عافيتنا ونشاطنا فقال صاحبي : هل إنتهينا من موضوع الثورات والثوار أم ما زال في رأسك ومزاجك بقية تود مناقشتها قبل أن نفترق هذا اليوم ؟ شجعني سؤال صاحبي وأزال شعوري بالحرج مخافة أن يُصاب بالملل والغثيان من فذلكات العصيانات التي لها أول ولا آخر لها . قلت يا متنبي ، إنتهينا من موضوعة الثورات لكني أود أن أذكرك بأوجه الشبه في سيرة حياتك وسيرة حياة الثائر علي بن محمد . قال أعوذ بالله !! وما أوجه الشبه يا هذا ؟ قلت له سأعدد ولك أن تعلّق أو تعترض ولكن بعد أن أُنهي مقالي.
قال موافق :
ــ كلاكما إدعى النبوّة
ــ كلاكما كان ثائراً ناقما ً أيام فتوته وصباه ... هو واصل ثورته لكنك توقفتَ .
ــ كلاكما تعرض للسجن والملاحقة والإتهامات والقذف بالزندقة والإباحية وربما المانوية
ــ كلاكما جاب البلدان والآفاق وكلاكما ترك مسقط رأسه باحثا ً عن الشهرة والمال والسعي لتحقيق طموحات بعيدة عن الواقع .
ــ كلاكما إدعى النسب العلوي
ــ كلاكما كان شاعراً .

هل لديك تعليق أو إعتراض يا متنبي ... سألته ؟ قال إعتراض واحد فقط : لم يكن الرجل علوي النسب ، لكني أنا علوي النسب من جهة جدتي لأمي . كان دعيّا ً وكنت ُ حقيقياً .
الآن ، وقبل أن ننهي برنامج اليوم ... يقال إنك كنت متأثرا ً بشعر علي بن محمد ... بالجانب الثوري منه ، فهل هذا القول صحيح ؟ أطرق المتنبي مفكرا ً بعمق ثم قال لم أقرأ شيئا ً من أشعار هذا الرجل . كان معروفا ً كثائر قاد ثورة الزنج ولم أطلّع على ما نُسب إليه من شعر . هل تود سماع شئ منه ؟ قال أتمنى . إسمع إذا ً ، ساقرأ عليك بضعة أبيات كلما قرأتها يُخيل لي كأنك أنت قائلها... إنها تذكرني بقصيدتك الثورية التي قلتها في مطالع صباك تهدد فيها وتتوعد وتبشر بالثورة . قال تقصد قصيدة ( شيخ ٌ يرى الصلوات ِ الخمس نافلةً ) ؟ قلت ُ أجلْ ، إنها هي . قال إقرأ بعضها ثم إقرأ ما قال صاحب الزنج من باب المقارنة . إذا ً ، أبدأ بشعرك يا أبا الطيب المتنبي ( مقتطفات من القصيدة ) :

ليس التعلل ُ بالآمال ِ من أَرَبي
ولا القناعة ُ بالإقلال ِ من شيَمي

سيصحَب ُ النصل ُ مني مثل َ مَضربهِ
وينجلي خبري عن صِمّة ِ الصَمَممِ

لقد تصبّرت ُ حتى لات َ مُصطَبَر ٍ
فالآن َ أقحَم ُ حتى لات َ مُقتَحَم ِ

لأتركّن َّ وجوه َ الخيل ِ ساهمة ً
والحرب ُ أقوم ُ من ساق ٍ على قدم ِ

شيخ ٌ يرى الصلوات ِ الخمس ِ نافلة ً
ويستحّل ُ دم َ الحُجاج ِ في الحَرم ِ

إن ْ لم أَذرك ِ على الأرماح ِ سائلة ً
فلا دُعيت ُ إبن َ أم ِّ المجد ِ والكَرَم ِ

ميعاد ُ كل ِّ رقيق ِ الشفرتين ِ غدا ً
ومَن عصى من ملوك ِالعُرْب ِ والعَجم ِ

كان المتنبي مصغيا ً لي بشكل مطلق . كان مسحورا ً بما يسمع من أشعار صباه الثورية جدا ً والمتحدية لمجتمعه وملوك زمانه من أولي الأمر . يتهدد الملوك ويعارض أو يستخف بفرائض الإسلام فيرى الصلوات الخمس نافلة ً ويستحل ُّ دماء حجاج بيت الله في المكان المحرّم . تركني لبرهة قصيرة كي ألتقط أنفاسي ثم طلب مني قراءة أشعار محمد بن علي صاحب الزنج :

وإنّا لَتصِبح ُ أسيافُنا
إذا ما إُنتضين َ ليوم ٍ سَفوك ِ

منابرهن َّ بطون ُ الأكف ِّ
وأغمادهن َّ رؤوس ُ الملوك ِ

ثم ... إسمع ما قال في شعر له آخر :

إذا النار ُ ضاق َ بها زَندُها
ففسحتها في فراق ِ الزِناد ِ

إذا صارم ٌ قر َّ في غِمده ِ
حوى غيرُه ُ السبق َ يوم َ الجِلاد ِ

هل تود ُ أن أقرأ عليك المزيد من شعر هذا الثائر ؟ قال أجلْ ، إقرأ .
من قصيدة له أخرى تتشابه موضوعاتها مع موضوعات العديد من قصائدك يا أبا الطيّب :

عَدمت ُ عِناق َ الخيل ِ إن ْ لم أزر ْ بها
عليها الكُماة ُ الدارعون البطارق ُ

وإن ْ لم أُصبّح ْ عامرا ً ومحاربا ً
بخطة ِ خسف ٍ أو تعقني العوائق ُ

أَيحسبني العرُبان ُ أنسى فوارسي
غداة َ نِزال ِ الرَدم ِ والموت ُ عالق ُ

كان المتنبي يراقبني عن كثب مراقبة لا تخلو من إعجاب بما كنت أُلقي من أشعار هذا الثائر . كان منبسط الأسارير وظل ُّ بسمة خجولة متحيرة تطيف على سيمائه حتى إنه توقف عن التدخين ولم يأت ِ أية حركة ولم يبدل مواضع قدميه كعادته في أوقات التأزم أو الضيق أو الحَرج . تجاسرت فسألته عن رأيه بما قد سمع من أشعار ثوروية تقدح شررا ً ونارا ً فلم يُجب . آثرَ الصمت َ أو إنه كان يُجري مقارنات بين هذه الأشعار وما كان قد قال من شعر أيام ثورته وثورانه وجيشان النقمة في صدره على السلطة والمجتمع .
طال سكوت صاحبي فأردت الخروج به من هذا الصمت البارد القاتل فإقترحت أن أُسمعه أشعارا ً أخرى لعلي بن محمد ينعى فيها ما آلت إليه أحوال بغداد يومذاك من فساد وخروج على تعاليم وفرائض الدين الإسلامي وشيوع شرب الخمور ووقوع السلطة بأيدي الترك . هز َّ رأسه هزة خفيفة وظل َّ وجهه محايدا ً شاحبا ً قليلا ً . شرعت بالقراءة :

لهف َ نفسي على قصور ٍ ببغدا
د َ وما قد حوته ُ من كل ِّ عاص ِ

وخمور ٍ هناك َ تُشرب ُ جهْرا ً
ورجال ٍ على المعاصي حِراص ِ

لست ُ بابن ِ الفواطم ِ إن ْ لم ْ
أُقحم ُ الخيل َ بين تلك العِراص ِ

واصل المتنبي صمته البارد الثقيل حتى بدا لي كالمشلول في إرادته وردود أفعاله . أعرف أنه كان ينكر على الدوام تأثره بشعر أبي تمام بل وينفي معرفته بهذا الإسم . لكنه لم يُنف ِ معرفته بعلي بن محمد ثائرا ً إدعى مثله النبوة والإنتساب لآل علي بن أبي طالب . هل تأثر المتنبي فعلاً بشعر هذا الثائر النكِد ؟ أدري إنه ، كعلي بن محمد في أبياته الأخيرة ، عاب على حكام المسلمين وخلفائهم إدمانهم وعكوفهم على شرب الخمور حتى إنه ، في معرض مديحه لسيف الدولة الحمداني ، عرّض بهؤلاء الحكام فقال :

ما الذي عنده ُ تُدار ُ المنايا
كالذي عنده تُدار ُ الشَمول ُ

فهل ، تُرى ، سيعترف الشاعر العملاق بهذا الأمر ؟ لا أظن ، مثل المتنبي لا يتنازل ولا يعترف بنقطة ضعف وكيف يعترف وهو من قال :

أنام ُ ملءَ جفوني عن شواردها
ويسهر ُ الخلق ُ جرّاها ويحتكم ُ

ثم هو القائل

لا تجسر ُ الفصحاء ُ تُنشد ُ ههنا
بيتا ً ولكني الهزبر ُ الباسل ُ

ما نال أهل ُ الجاهلية ِ كلُهم ْ
شعري ولا سمعت ْ بسحري َ بابل ُ

ثم

وما الدهر ُ إلا ّ من رواة ِ قصائدي
إذا قلت ُ شعرا ً أصبح الدهر ُ مُنشِدا

ودع ْ كل َّ صوت ٍ غير َ صوتي فإنني
أنا الطائر ُ المحكي ُّ والآخر ُ الصدى

هذا بعض ما قال الشاعر المتنبي عن نفسه وشعره ، فكيف أتوقع منه أن يعترف بتأثير هذا الشاعر أو ذاك عليه شاعرا ً ؟ مثله لا يعترف . جاء المتنبي بعد الثائر علي بن محمد بقرابة قرن من الزمان . ثم ، إن َّ أغلب شعر صاحب الزنج فُقد وأُتلف وأُحرق بعد فشله في مسعاه ومقتله .
ظل َّ صاحبي صامتا ً يأبى أن يعلّق لا سلبا ً ولا إيجابا ً فبقي السؤال عالقاً.
تركت صاحبي بين النائم والصاحي حتى إنه لم ينهض لوداعي ... لكأنه كان مغلوبا ً على أمره .
[ ملاحظة : أشعار علي بن محمد التي قرأت ُ على صاحبي المتنبي وجدتها في كتاب الدكتور أحمد عُلبي // ثورة الزنج وقائدها علي بن محمد . الطبعة الجديدة 1991 . الناشر : دار الفارابي ، بيروت] .

نيسان 2007