| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الأحد 18/11/ 2007



إلى مَن ... يهمه الأمر

عدنان الظاهر

حين تغيم السماء ، سمائي الخاصة ، وتغيب شموسي وينزل أو لا ينزل المطر ، سواء ، أراني أهيم في الغابات المجاورة تسحرني أوراق الخريف المتساقطة من غصون الشجر : خضر ، صُفر ، حُمر ، شاحبة دون لون ... تغمرني مسرّة غريبة إذ أمشي فوقها وألاعبها بطرف حذائي وأستمتع كثيراً بما يصدر عنها من أصوات تناغم ظواهر خفية مطوية في دواخل نفسي . أسمع أصداءها وأُصغي لأصداء أصدائها وأود لو ملحناً موسيقياً يستطيع ترجمتها إلى نوتات وسلالم ونغمات يسجلها على كاسيت ويقدمها لي مجاناً . سأكافئه ، سأجزيه وأجازيه خير جزاء . سأدعوه لبيتي نأكل ونضحك ونشرب ونرى بعض أفلام فريد الأطرش ونستمع إلى بعض تسجيلات أغانيه فالكثير من أغانيه حزين يطابق حزني في شهري أكتوبر ونوفمبر . يروق لي في هذين الشهرين أمران : الميل الشديد لتناول المشروبات الكحولية الثقيلة : 60 / 70 % كحول . ثم السفر بدون هدف . لماذا يحب الناس السفر ؟ أجد فيه نوعاً من الحرية لا أجده في مكان إقامتي . أستنشق فيه هواءً أكثر نقاءً . أجد صرف نقودي فيه أكثر جدوى . أرى نفسي في مدائن السفر غريباً غربةً مركبة فيزداد فرحي وتزداد ثقتي بنفسي . أشعر أني في مدائن السفر أقوى وأصح مني حيث أقيم . أكثر حيوية ً ونشاطاً وأقدر على مواجهة الحياة بكافة أوجهها وأنماطها . ثم ، أظل ُّ أحيا أملاً معلقاً بإحتمال لقاء البعض من أهلي وخاصتي أو بعض الأصدقاء الذين فارقتهم أو فارقوني لعقود من السنين . حدث ذلك لي ولكنْ لمراتٍ قليلة كان آخرها في لندن عاصمة الإنجليز . فاجأني ـ وكنت أترقب وأتفحص وجوه المارة في شارع مزدحم مكتظ بالبشر ـ بتحية وسلام شديد السخونة . أنكرته فقال أنا فلان زميلك السابق في جامعة بغداد . أنا أبو (( ... )) . تذكرته . ما كنا في جامعة بغداد أصدقاء . دعاني إلى بيته لتناول أطعمة عراقية وسألني ماذا أود أن آكل ؟ كباب ، كباب مشوي مع رز جيد ومرقة بامياء ثم شاي عراقي ثقيل . قال تدللْ . كانت زوجه أكثر منه كرماً وأفضل خُلقاً . كان ينفي إنتماءه لحزب البعث الحاكم ، لكن زوجه كانت تقف له بالمرصاد مفندةً دعاواه ومكذبةً هذه الإدعاءات وتؤكد له أمامي أنه كان ناشطاً ومؤيداً قوياً لحزب البعث .
أخذني بعد العشاء إلى أحد النوادي مزيناً لي طبيعة هذا النادي ومزاياه وما فيه من متع (( بريئة )) وقضاء للوقت وربما كسب بعض النقود . لم أستوعب الفكرة ولم أستطع تصور أو تخيل طبيعة وتفصيلات هذا النادي. دخلنا ، طلب لي وله قهوة بالكريم . سحبني من يدي إلى طاولة غريبة لم أرَ لها مثيلاً في حياتي . تحلق حولها رجال بعيون شاخصة منتظرة تحملّق في كرة بيضاء تدور في عجلة فيها أرقام وتدور عيونهم معها حيثما دارت. تسقط الكرة البيضاء على رقم محدد هو بعض من 36 رقماً فضلاً عن الصفر الحسابي . يخسر نقوده بعضهم ويكسب آخرون . ما هذا يا صديق ؟ روليه ، إنها لعبة الروليه الأمريكية . لا خبرةَ لي فيها ولم أرَ في حياتي مثل هذه الطاولة الكثيرة الألوان والأرقام . قال جرّبها ، هيا إلعب . أعطيك من باب التشجيع بعض النقود . هيا . وهل تمارس أنت هذه اللعبة يا صديق ؟ يومياً ، أمارسها بإنتظام . وهل تربح فيها أو تخسر ؟ هذا وذاك. يوم أخسر ويوم أربح . أي أنَّ النتيجة النهائية صفرٌ ، تقريباً ، قال . رفضت فكرة أن أقامر كما يفعل هذا القطيع أمامي وكان أغلبهم آسيويين . قلت له إنَّ القمار يدمر البيوت ويخرب العوائل . لم يعلق .
مرّت أعوام وأعوام . زرت لندن ثانيةً فحثتني نفسي أن أزور هذا { الصديق } والزميل السابق وكان يراسلني فعرفت مكان إقامته الجديد قريباً من ضفة نهر التايمس من الجهة الأخرى . حملت له ولزوجه وأطفاله بعض الهدايا المناسبة وقهوة ممتازة و ( بطل ) ويسكي سكوتلاندي . حضر العشاء رغم أنفه بمبادرة من زوجه . سألته لِمَ غيّر مكان سكنه ؟ لم يجبْ . أجابت أم أطفاله : خسر في المقامرة الكثير . كان بيتنا السابق يقع قريباً من نادي القمار فآثرتُ الإبتعاد عن هذا النادي وعن بلاويه وإسمه الأسود اللعين [[ الحذاء الأسود ]] . والآن ؟ إتجه لشرب الكحوليات بإفراط !! وماذا عن تجارته السابقة ومشاريعه الكثيرة ؟ أكل الأصدقاء الكثير من نقوده وتركوه . هل يود الرجوع للعراق ولوظيفته السابقة في الجامعة ؟ إنه يود لكني أعارضه ولن أطاوعه ولن أعود إلى عراق البعث وصدام حسين ( كان ذلك صيف عام 1989 ) . أهلي في مدينة (( ... )) معارضون لنظام الحكم في العراق ، قالت ، وأغلب رجالنا يقاتلون في الجبال فكيف أعود ؟ هذا ، أشارت إلى زوجها ، بعثي بل وكان مدلل البعثيين فلا خوف عليه من الرجوع . كان كاس الويسكي لا يفارق كفه . يتظاهر بالإنصراف عن حديث زوجه وما تقص عليَّ من أخباره بمتابعة شاشة التلفزيون العريضة جداً . جاءت إبنته الكبرى ـ وكانت ما زالت صبية فوق العاشرة بقليل ـ جلست بجنبي وطلبت مني شرح بعض مبادئ علم الكيمياء . توسعت لها بالشروح ثم سألتها : ألا يساعدك أبوك في شؤونك المدرسية ؟ قالت كلا ، ولا مرّة . يتهرب على الدوام . كان مشغولاً بالقمار والآن الكحول هو شغله الشاغل . ودّعتهم شاكراً حسن ضيافتهم ولا سيما السيدة زوج الزميل .
في طريقي لمقامي في الفندق كنت ألح في السؤال : من أين تأتي هذا الرجل َ كلُ هذه النقود والأموال ؟ كأن خسائره الفادحة في قمار الروليه لا تؤثر فيه وعليه وعلى مستوى معيشته الباذخ . ينتقل من شقة رائعة إلى آخرى أكثر روعة وبهاءً وأغلى ثمناً . قال لي مرةً إنَّ أحد أقاربه يتاجر بالعقارات ويكسب الكثير . هل يعوِّض هذا القريب خسارات قريبه في المقامرة ؟ لا يحدث ذلك كثيراً في تأريخ البشر .
ما علاقة هذا الزميل السابق بشهري الخريف والغيم والمطر وألوان الأوراق المتساقطة على الأرض ؟ الحزن . الميل القوي للأحزان خلال هذين الشهرين ، أكتوبر ونوفمبر [ تشرين الأول وتشرين الثاني ] . حزنت على وضع هذا الزميل الأكاديمي السابق الذي إستبعث من باب الإنتهازية الذي تفشى بين صفوف الكثير من العراقيين زمان حكم صدام وحزب البعث لشديد الأسف ، ومن بينهم غالبية أساتذة الجامعات العراقية إما طمعاً بمنصب وإمتيازات ٍ أو دفعاً لشر مستطير يتربص بهم وأولادهم وعوائلهم . حزنتُ لأنَّ هذا الزميل السابق إنصرف وقد غادر العراق ليتنعم بالحياة في لندن لا لظلم أحاق به أو حيف وقع عليه ولكن لينصرف لمزاولة القمار وتعاطي الكحول ليلاً ونهاراً . هل بقي وعائلته حتى اليوم في لندن ؟ لا أدري ، فقد إنقطعت صلتي به منذ عام 1989 .
إلى مَن يهمه الأمر : سينقضي سريعاً شهر تشرين الثاني صنو وند أخيه الأكبر شهر تشرين الأول ( مثل تسلسل الملوك على عروشهم أو تيجانهم الخاوية على عروشهم ) . شهر أكتوبر الذي تسمّت به الثورة البلشفية عام 1917 والتي يُحتفل بها عادة في اليوم السابع من شهر نوفمبر ، تشرين ثان ٍ . نعمْ ، سيمر نوفمبر عجلانَ كشأن بقية شهور السنة لأواجه شهراً آخر هو الأخير في تسلسل جدول الزمان السنوي ( الكالندار ) ، إنه ديسمبر ، كانون الأول . وفي هذا الشهر تأتي الأعياد والإحتفالات والسهرات صغراها وكبراها فأفرح ببعضها ولكنْ ، معها وخلالها تأتيني ضربة حزن عميقة لمناسبة محددة بعينها تتكرر معي مرةً كل عام !! مرة ً واحدة ً تبقى ذكراها معي طوال عام كامل جديد .
إلى مَن يهمه الأمر : أي أمر ؟ أمري بالطبع . ما شأن الناس بأمورك الخاصة ؟ لم يتبق َ معي أمور خصوصية البتة . غدوت ُ في آخر أمري ( أو عمري ، لا فرق ، هناك علاقة صوتية متبادلة بين الهمزة وحرف العين ) .. غدوتُ عامّاً موزَّعاً مشتتاً لا أهلٌ ولا وطنٌ ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سَكن ... كما تفضّل وقال أبو الطيب المتنبي . لِمَ فات هذا الشاعر ذكر الأرض ، أصل كل شئ وهي المبتدأ وإليها المصير والمآل ؟ الوطن محدد بحدود وجغرافيا وبشر لكنَّ الأرض واسعة ٌ كروية لا حدودَ لها . الأهل فارقوا الحياة جميعاً . الوطن ضاع بين حانة ومانة . النديم ؟ لا من حاجةٍ لي إلى الندماء سوى وهيب نديم واحد في فلسطين ثم َّ الكومبيوتر العتيق ... نديمي وصديقي وقارض عمري والباقي من صحتي . الكأس ؟ رأيته في لندن مترعاً بالويسكي لا يفارق كفي الزميل الأكاديمي السابق . السَكن ؟ إختلف النُحاة واللغويون والنقاد والمفسرون في تفسير معنى السَكن . هل هو البيت أم الزوج ( ة ) ؟ اللهُ أعلم !!
أما بعدُ ، يا أولي الأمر ، القائلين بالمعروف والناهين عن المنكرات والقاتلين الناسَ على الظنّة والهوية والطائفة والقومية ... تعالوا إلى كلمةٍ سواء لنحتكمَ أمام محكمة وقضاء التأريخ : متى تعيدون لي حقوقي المهضومة هضماً والمعلوسة علساً وقطعة أرضي التي أحتفظ برقم تسلسلها و لم أرها ؟ الأرض التي أغفلها المتنبي في بيت شعره السالف أو تناسها أو تعالى على ذكرها لأنه كان دائم السفر لا يستقر على حال وهومَن قال :

ألِفتُ ترحّلي وجعلتُ أرضي
قتودي والغُريري َّ الجُِلالا

فما حاولتُ في أرض ٍ مُقاماً
ولا أزمعتُ عن أرض ٍ زوالا

على قلق ٍ كأنَّ الريحَ تحتي
أوجهها جَنوباً أو شمالا

فما حاجة رجل هذا مذهبه إلى أرض يقيم فيها ويبني فوقها بيتاً أو سَكناً ؟
سألتُ المتنبي : هل كنتَ صادقاً فيما قلتَ في هذه الأبيات ؟ إي وأيم الحق ، كل الصدق ، أجاب وأضاف : لو كنتَُ اليوم معكم أحيا زمانكم لجبت ُ الدنيا على جناح طائرة (أيربوس 680) طالباً اللجوء الأدبي والشعري يوماً في هذا البلد الجميل وآخر في ذاك الأجمل حتى نهاية عمري . وماذا عن وطنك العراق يا أبا الطيّب ؟ أنسيت َ ما قلتُ ؟ وأنشد :

بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنٌ ... قاطعته قائلاً كفى ، أعرف عجز هذا البيت الشعري . قال إذا ً لا تسألْ عن أمور أنت عارفها كما أعرف أنا . كيف تكون الريح تحتك يا شاعر ؟ وما وجه الغرابة يا هذا ؟ قال . أتستطيع طائرة التحليق دون هواء وفي حركة الهواء ريح ؟ كذلك أنا ، لذا قلتُ : على قلقٍ كأنَّ الريح تحتي ... الريح تحرك حصاني أي الطائرة التي أُقل ُّ في أسفاري وحصاني أفضل وأسرع من الأير بوس الأوربي المموَّل بعملة الأويرو . صدقتَ يا متنبي ، صدقتَ .

نوفمبر 2007




 


 

free web counter