| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

 

الأثنين 17 /9/ 2007

 

 


المتنبي وثياب الإمبراطور

عدنان الظاهر

- 17 -
في طريقنا إلى الحديقة الإنجليزية سألت المتنبيء لماذا أخفى هويته عن الشاعر علي أحمد سعيد وأصر أنْ لا أكشفه له. فكّر طويلا قبل أن يقول : عرفت أن ( أدونيس ) معجب بي ويتخذني مثالا للشعراء. ثم إنه كتب كتابا أو أكثر عني. ولهذه الأسباب تحمّل الرجل - كما تعلم - قساوة نقد صديقك صاحب ( ثياب الإمبراطور) العاري من الثياب. قال عن الرجل إنه ينتمي إلى مجموعة شعراء المدرسة الشامية فوضعه في صف أبي تمام والبحتري والمتنبي. هل سأل الأخ فوزي كريم نفسه أين عاش وعمل وشهُر أبو تمام والبحتري؟ نعم، وُلد الشاعران في بلاد الشام لكن أين إكتسبا شهرتيهما وأصبحا أعلاما في دنيا الشعر؟ هل يعرف فوزي من كان شاعر خليفة المسلمين المعتصم ومن كان شاعر المتوكل؟ هل يعرف أين ولد وترعرع وحكم ومات ودفن كل من المعتصم والمتوكل؟ وكيف أجاز لنفسه أن يضعني في قائمة شعراء بلاد الشام وأنا العراقي مولدا وأصلا ونشأة ومصرعا؟ سأرسل له نسخة ( فوتو كوبي ) من دفتر نفوسي ونسخة من شهادة الجنسية العثمانية التي هربتها معي حين غادرت العراق.
دخلنا الحديقة الإنجليزية فأتخذنا طريقنا بين ظلال أشجارها الوارفة. كانت شمس شهر مايس ( آيار) قوية وكان المتنبي شديد التوتر والإنفعال. رأى منضدة خشبية تحت ظلال الشجر فقال نجلس هنا. قلت بل نواصل المشي حتى المقهى المطلة على البحيرة. رحّب بالفكرة فأشعل سيجارة أخرى وظل ينفث الدخان متواصلا مثل مدخنةٍ أو قاطرات سكك الحديد القديمة. قلت له هل أنهيت كل ما أردت أن تقول؟ قال تقريبا. قلت له كنت مغاليا بعض الشيء فيما قلت. المسألة ليست مسألة مكان مولد الشاعر ونشأته بل إن تقسيم السيد فوزي كريم كان تقسيما فنيا لا جغرافيا. لماذا أخذتك دواعي القطرية وأنت متهم بالشعوبية؟ ضحك الرجل ثم قال أعجبني كلامك. القطرية والشعوبية. أفلم يكن أدونيس قطريا – قوميا – سوريّاً - سُوريا(ليّاً)؟ هل إتهمه أحدٌ كما إتهموني بالشعوبية؟ قلت بل إتهمه البعض بالباطنية والإسماعيلية، ذات التهمة التي أُلصِقت يوماً بك. قال وما زلتُ متهما بها. وبعدي تورط فيها المسكين أبو العلاء المعري. قال الآن قد أفهم دواعي حساسية فوزي مني ومن أدونيس لكن لا أفهم سرَّ إعجابه بأبي العلاء وهو مثلي إسماعيلي بل و شعوبي يفضل فارس على العراق وسوريالي مثل أدونيس؟ قلت لأن الرجل أعمى وكان رهينَ ثلاثة سجون هي العمى والبيت والجسد. ولأنه لم يمدح أحداً مقابل المال. ثم قد وجد في شعره شيئا من شعر الروح والحيرة والحنين إلى الموت والفكر الفلسفي العالي غلفها بمهارة تجنيسا وتورية من باب التقية حسب إعتقاد طه حسين وفوزي. قال ألذلك وضعه في مدرسة شعراء الروح البغدادية مع بشار وأبي نؤاس وإبن الرومي وبدر شاكر السياب؟ قلت نعم. قال لكنه ولد ونشأ في مِعرّة النعمان الشامية. قلت لكنه زار بغداد وإختلف إلى مجالس علمائها وشارك في بعض ما دار من جدل حول مسائل الفقه والدين والشعر. قال لكن بعض أهل بغداد آذوه وأهانوه خاصة الشريف المرتضى. قلت كان كسقراط جريئا جرأة الفيلسوف وشجاعا شجاعة المفكرالضريرالذي لا يخشى أحدا. قال رأيه ثم تحمل جراء ذلك ما ناله من أذى. ثم زيارة بغداد شيء والإنتماء (القطري) شيء آخر. كان وظل الرجل وسيبقى محسوبا على معرة النعمان في بلاد الشام حيث ما زال قبره مزارا لمحبيه ورافعي قدره. لقد خلد بغداد والعراق في قصائد رائعة. سنرجع إليها وإليه يوما. قال إن شاء الله.
وصلنا مقهى البحيرة فوجدنا مصطبة خالية تقع تماما على ضفة البحيرة. قال هنا نجلس.
كانت حديقة المقهى الداخلية مفعمة برائحة شواء مختلف اللحوم. وصلت أنف صاحبي فقال أريد طعاما مشويا. سألته ماذا يشرب قال ستأتي بنت حلوة تسألنا ماذا نشرب. قلت هنا لا يأتيك أحد ليسألك ماذا تشرب. هنا أنت تخدم نفسك. قال وما معنى أن تخدم نفسك في مقهى عام؟ قلت تعال معي لأريك. مشى خلفي حتى وصلنا مكان طلب الطعام والشراب. دخلنا في صف المنتظرين ووقفنا لبضعة دقائق حتى جاء دورنا فطلبتُ قطعتي لحم مشوي وقطعتي خبزأسمر وكأس بيرة بحجم ليتر كامل يسمونه هنا MASS . طلب صاحبي ( مقانق ) مشوية وخبز وسلاطة مع شاي وزجاجة ماء معدني. دفعت الحساب فسألني من سيحمل هذا الطعام لمنضدتنا؟ قلت نحن،
أنا وأنت. كلٌ يحمل صينيته. وهذا هو مفهوم إخدم نفسك SELF SERVICE . حمل صينيته ماشيا ورائي مغنيا ( شهلبلشه يا ربي حِسن سموني ). منذا يلوم إذا ما أسميتُ نفسي معيدي لندن؟ هل هكذا سيكون وضعي في لندن؟ قلت أجل. نظام إخدمْ نفسك شائع هنا وفي أوربا وفي الكثير من بلدان العالم. إنه يوفر للمطاعم والمخازن الكثير من الأموال.
جلسنا لنأكل ونمتع النظر في البحيرة وما يعوم فوق سطوح مائها من طيور وبط وبش وأوز. لكن المتنبيء شرع يأكل بشهية منقطعة النظير. ترك سيجارته تأكل نفسها بنارها. إنقطع عن الكلام وغاب عن العالمين متفرغا لصحون طعامه. تركته يمارس حريته وأنا على ثقة أن الرجل سيؤوب عاجلا لي ولنفسه ولما حولنا من عوالم رائعة. أعرف إنه يهوى الماء والبحيرات حتى هوس العشق الصوفي. كان جائعا كأن لم يأكل طعاما منذ سنين. نسي حتى كأس الشاي أمامه لكن لم ينس الماء. كان يأكل ويتناول بين الفينة والفينة رشفة من كأس الماء. بعد حين رفع رأسه وأجال ببصره في أرجاء البحيرة والمقهى ثم سألني : أين نحن؟ قلت :

مغاني الشِعبِ طيباً في المغاني

فعقب على الفور

بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ

أبوكم آدمٌ سنَّ المعاصي
وعلّمكم مفارقةَ الجنانِ

قلت لكنك كنت دوماً زاهداً بالجنان وبأنهار اللبن والخمر والعسل والولدان المخلدين وحور العين، هل نسيت أبا محسّد؟ قال إي ورب الكعبة قد نسيت. هذه الجنان الأرضية حيث أنا وأنت تنسيني تلك التي لم تعدْ تراني ولم أعد أراها. تلكم الجنات جد بعيدة عني وعن أمثالي، لذا فإني زاهد فيها ولا أحسبها تقبل فيها واحدا مثلي. تجشأ بقوة لفتت إنتباه الحاضرين قريبا منا. قلت له قلْ عفواً. قال لمن أقول عفواً؟ هؤلاء أجانب لا يفهمون العربية! قلت التجشؤ لا يحتاج إلى لغة وترجمان. يسمعه الناس وتتقزز أنفسهم من الصوت النشاز. ثم إن أنكر الأصوات … قال طيب طيب أعتذر. ما ذنبي إن وجدت الطعام هنا لذيذا فوق العادة فأكلت كما لم آكل في حياتي قط. أكلت أكل الوحوش. أنت السبب لأنك أنت من قادني إلى هذا الفردوس الأرضي الساحر. قلت له إنسَ الموضوع وقل لي رأيك بالبيت الذي قلت يوما (( فقيل تخلصُ نفسُ المرءِ سالمةً / وقيل تشرك جسمَ المرء في العطبِ )). إستأنف الأكل لكن ببطء وحذر قبل أن يجيب. قال وما علاقة التجشوء بهذا البيت؟ قلت لا علاقة بينهما، إنما كنا نتكلم عن جنات الخلد التي فارقها إذْ عصى أوامر ربه أبونا آدم. إزداد حماسه للأكل قبل أن يقول (( فهذه الأرواحُ من جوّهِ / وهذه الأجسامُ من تربهِ)). قلت ذكرتني بذاك الذي فسر الماء بعد الجهد بالماء. من الماء وبالماء إلى الماء. قال قد قال صديقنا المعري شيئا قريبا جدا من هذا القول. قلت نعم، في رسالة الغفران، وقد إقتبسه منه لاحقا ( لسان الدين إبن الخطيب الأندلسي) ثم أخذه عنه
إبن خلدون ( صاحب تيمورلنك ) في مقدمته وأشارأستاذنا ( علي الوردي ) إلى ذلك في كتابه ( منطق إبن خلدون ). أشار الوردي إلى إقتباس إبن خلدون لعبارة إبن الخطيب غيرعارف بعلاقتها أصلا بالمعري. قال عجيب! السارق يسرق المسروق قبلاً. سُنّة الله في خلقه. ألدنيا سارق ومسروق. قلت لكنك لم تجبني عن سؤالي. قال كيف أجيبك والمسألة ما زالت شائكة ولا حل لها. لم يحلها بعدُ لا العلم ولا العلماء. أحسبك تقصد مصير النفس البشرية بعد موت صاحبها. قلت بالضبط. قال شائكة شائكة. قلت سأحتفظ لنفسي بحق مناقشة هذا الأمر معك مراتٍ ومرات. لقد أكثرت في أشعارك من ذكر النفس والجسم مرة والروح والجسد مراتٍ أُخَر. فمشكلة ثنائية النفس - الجسم/ الروح - الجسد أراها مسألة جديرة بالإهتمام.
وأنت تعلم مقدارإهتمامي ببيتك الشعري الذي قلتَ ... وضع السكين والشوكة على المائدة وقاطعني قائلا (( وإذا كانت النفوسُ كِباراً / تعبت في مرادها الأجسامُ )). قلت أحسنت. واصل الأكل بشهوة أقوى حسدته عليها. قال لا الوقت وقت مناقشة مثل هذه المسائل المعقدة ولا الجو جو جسم ونفس وجسد وروح. دعنا نتمتع بسحرهذا الفردوس البرمائي. دعني أتمتع بحريتي التي ما مارستها كاملة في أوطاننا من الشام لبُغدانِ ومن مصرَ لتطوانِ. كان ساخراً مرحاً بعد أن أكل وشبع وزاد فتجشأ. أصبح صاحبي وقد بَشِمَ زاهداً بالجنان العلوية. يرفض مناقشة مسائل جدية أثارها في شعره. أسأل مَن إذن إذا كان أبو الطيب المتنبيء الجالس قبّالتي يرفض تزويدي بالجواب؟. (( كالماء في الماء إلى الماء)).
مزمز وتلمظ بشفتيه بعد أن مسح صحونه ثم ولّع سيجارة (الكنت) وسألني هل من بيت هنا للراحة؟ شرحت له كيف يجد هذه البيوت. قلت له إنها في آخر الحديقة. ثم حذرته أن لا يخطيء العلامات كما فعل مرة في إحدى المقاهي عندما دخل المكان المخصص للسيدات. كانت فضيحة أضحكت كل من كان في تلك المقهى.
كنت أراقبه حين أكمل شغلته خارجاً من بيوت الراحة (المراحيض). رأيته يحكم إغلاق أزرار سرواله (البنطرون). حين وصل مكاننا عنّفته كما فعلت مراتٍ سابقة معه. عرف السبب فقال عفواً، ما كنت في حياتي أعرف هذه الملابس. لا تلمني. ما كنا نعرف الأزرار ولا البنطرونات. كنا نتبول،
نقوم ، نشد التكّة ونغادرالمكان. لا زر ولا بنطال ولا هم يحزنون. لا من يسأل ولا من يراقب وأنت تعلم أن من راقب الناس مات همّاً. سألته وما كان إسم البنطال أو البنطرون في زمانكم؟ قال ( سروال)، من خام أبيض عادة يُشدُّ على البطن بتكّة. تحيرت في أمري. فالسروال كلمة هندية ( لعلها بلغة الأوردو) متداولة في الهند وباكستان. عدت أسأله وما معنى
(السِربال) ؟ قال الثوب. قلت وهل عنيت السروال أم السربال في بيتك :

إني على شغفي بما في خُمرها
لأعفُّ عمّا في سرابيلاتها

إذ أنَّ نقّادك قد إختلفوا وإلتبست عليهم حقيقة هذا الأمر. قال لا فرق عندي بين الإثنين. سروال كلمة أجنبية معرّبة يحتمل فيها الوجهان. فصوت الحرف ( واو ) في سروال ينقلب في بلاد فارس إلى صوت الحرف الإنجليزي V . وينقلب في لسان بعض قبائل العرب إلى الحرف ( باء ). غير أن قبائل أخرى تلفظه كما هو في الأصل وكما جاء بلغة السند والهند
( سروال). قلت يا أبا الطيب، هل تعرف أن إسم المدينة الإسبانية (فالنسيا) قلبه العرب يوم كنا وكانوا في الأندلس إلى ( بلنسية) ؟ وفالنسيا تبدأ في الأصل بالحرف V . قلبوا هذا الصوت الذي لا وجود له في حروفنا العربية إلى صوت الحرف باء.
عدت أسأله - إذ رصدتُ بعض أمارات الضجرآخذة كالغيوم بالتجمع على قسمات وجهه - وهل هناك من علاقة بين كلمة سربال والفعل تسربل يتسربل الذي إستعمله فارس العرب عنترة العبسي في معلقته التي قال في أحد أبياتها (( ما زلت أرميهم بثغرة نحره / ولبانه حتى تسرّبل بالدمِ ))؟. نفض رماد سيجارته كمن يدفع سأما أو حرجا عن نفسه وتلبس بلبوس الجد الرسمي وشرع يهمهم كالهامس مصرِّفا الفعل الماضي تسربل ومشتقاً منه ما شاء من ضروب الأشتقاق : سرب ( حرف الراء مخفف)… سرّبَ ( راء مشددة )… تسرّب… سِرْ … سرَّ … بَسَرَ…بِرِسْ ( إسم مكان قرب مدينة الحلة ) رسب… ترسّب … ستَرَ…سِتْر.. تِرس… سبَّ… سَبَرَ… تبَلَ… لبس … تلبّسَ… سلَّ… لسَّ… لتَّ… لُبٌ…لبَّ… سِرْت ( إسم مدينة ليبية ) … ربٌّ…ربَّ… بَرَّ…بِرٌّ…سَلْ…سِلّ…. بلَّ ( من البلل بالماء )…أبلَّ (الإبتلال من المرض، فما أبتلّت جوانحنا)… بتر… رَبَتَ… تِبْر( الذهب)…تَرِبٌ… تُرَب ( جمع تربة )…..في لحظة عابرة خيل لي أن المتنبيء قد أطال في صرفه وإشتقاقه الممل متعمدا إغاضتي عله ينجح في جعلي أصرف النظر عن سؤالي سالف الذكر. خيبت ظنه إذ أدركت مبتغاه فبقيت متماسكا ضابطا أعصابي متصنعا الصبر والإهتمام بما كان يقول بصوت شبيه بالهمس المسموع. أدرك الرجل لا جدوى وعبث جولته اللغوية فإصطنع بسمة دبلوماسية ماكرة تخفي وراء قناعها إحساسا مشوبا بشيء يشبه الخيبة … أو الإخفاق. قلت له لِمَ شغلت نفسك بهموم تصريف الفعل ( تسرّبلَ ) ؟ قال أقول لك الحق : في هذا الفعل معنى التستر والستر. والسروال أو السربال ملبوس لسترالجسد. ثم – وهذا هو الأهم – إنَّ الفعل تسربل الرجل يعني إرتدى وغطى جسمه سواء ببردة أو طيلسان أو بالدماء على سبيل المجاز… نقول هذا مُسربل أو متسربل بالدماء. وكان هذا ما قصده شاعرنا بطل بني عبس الذي فرّط به قومه فقال (( يسمونني في السلم يا ابنَ زبيبةٍ / وعند اشتباك الخيل يا أبنَ الأطايبِ )). خلاصة القول : إنْ كانت كلمة سروال هندية – سِندية الأصل فإن كلمة سربال عربية خالصة مشتقة من الفعل تسربل يتسربل. تسربل الرجل بسرباله مثلا. بدا المتنبي أمامي منتصراً، وكان منتصرا حقيقة لا مجازاً. ثم قال بثقة وعنجهية هل فهمتَ أخا العرب؟ أجلْ، فهمتُ لا فُضَّ فوك يا أبا الطيب. أنقذتني من ورطة كبيرة ومن همٍّ مقيم. قال قد شغل بعض النقاد أنفسهم قبلك بهذا الأمر ولا سيما أولئك من مدعي الأخلاق والفضيلة. رموني بالفحش وقول الكلام البذيء بسبب قولي ( سرابيلاتها ) إذ إدّعى بعضهم أنه رآها في بعض نسخ ديواني ( سراويلاتها ) ... وليس سرابيلاتها ولا أرى فرقا بين الأثنين.
قمنا لنغادر المقهى والبحيرة والحديقة الإنجليزية على مهل. فقد ثقل بما أكل الرجل من طعام وكانت سيجارته تتنقل ما بين أصابع يده وشفتيه وعلامات الشبع تفضح الشاعر المتقاعد إذ أرخى قليلا من حزام ( سرباله ) وتجشأ في الهواء الطلق تحت باسق الشجر بعد أن تأكد أن ليس من أحد حولنا أو قريبا منا. قال بعصب جدَّ بارد لدي سؤال. قلت قلْ ما دمنا في داخل حدود هذه الجنة. قال لم تخبرني بعد عن سبب تسمية هذا الفردوس بالحديقة الإنجليزية. كان جوابي : قال لي بعض من أثق به من الأصدقاء أن الأصل في سبب هذه التسمية هوأن الحكومة تسمح لكلا الجنسين من البشر بالإنبطاح في بعض أنحاء هذه الحديقة عرايا تحت شموس الصيف والأيام الدافئة. قال ألله ألله !! نساء ورجالا ؟ قلت أجل. هنا لا فرق بين رجل وإمرأة. الكل مواطنون سواسية أمام الحكومة التي إنتخبوها وأمام القانون. حواء تساوي آدم وآدم يساوي حواء. ثم، أضفت، هناك على سواحل نهر ( إيزار ISAR ) الذي يشق مدينة ميونيخ نصفين مناطق معينة يتشمس داخل حدودها محبو التعري من البشر. ثم، أزيدك علما، …
لم يُطق صاحبي صبراً فهتف هيا هيا زدني علماً، قلت وهناك بضعة جزر في نهر إيزار هذا يتعرى على حصبائها كلا الجنسين ( ربي كما خلقتني). يعشقون حرارة الشمس صحّةً وطبّاً وسُمرةً لأُدُمهم ناصعة البياض. يأتون محملين بالصحف والطعام ومختلف المشروبات ويقضون أوقاتا طويلة بين الإنضجاع أوالإنجضاع أو الإضطجاع تحت أشعة الشمس ولعب الكرة وسواها عراةً عراةً يا أبا الطيب.
كان الرجل سارحاً مسحوراً بما كان يسمع. كان واضحا أن لديه سؤالا يتحرج من طرحه عليَّ. بادرته قائلا سنذهب معا في شهر حزيران أو تموز أو آب إلى نهر إيزار وأريك واقع ما قلت باهرا تحت خيوط شمس الصيف العسجدية التي يتحمص تحتها الدر والزمرد والمرجان والياقوت والفيروز والنرجس. تنهد صاحبي عميقا ثم قال متى يأتي حزيران؟ يأتي حزيران في شهرحزيران يا أبا الطيب. سترى وستود أن تشاركهم عُرياً ولعبا وطعاماً وشرابا. ألم أقل لك إنما أنت في جنة حقيقية من جنات النعيم؟
قال أسفاً،قد فاتني الكثير. كان المفروض أن أطلب اللجوء قبل عشرين عاما. قلت وما زال أمامك الكثير. لم يفتك شيء. لم تخسرشيئاً. تستطيع هنا حتى أن تتزوج وأن تنجب. إحتجّ بإنفعال قائلا وكيف أنجب وقد بلغت من الكِبر عِتيّا؟ قلت زكريا ليس بأفضل منك. وإبراهيم ليس بأقوى منك. الأمر بسيط : تتزوج من إمرأة لديها أطفال من زوج سابق – أو أكثر من زوج –فيحملون إسمك وتكون لهم أبا شرعاً وقانوناً. قال أعوذ بالله. تزوجت مرة واحدة فقط وأنجبت ولدا واحداً فقط وعلى حين غرّة فقدت الجميع. خسرت الزوج والولد.لا، لن أسمح بتكرارالكارثة. لن أسمح مطلقا. أرجوك إبعد عني هذا الموضوع. التعرض للشمس عاريا شيء ربما أتقبله لكن الزواج ثانيةً شيء آخر، بالمرة شيء آخر. العري والتعري في العراء في هذه البلدان أفضل من الزواج. التعري ليس مِعرّة ولا مجلبة لخجل. لا تورطني بما لا طاقة لي به. رفقا بالقوارير. قلت طيب، سأراك عاريا في يوم قريب. سأعريك ما دمت في ألمانيا. وسأصوّرك عارياً على النهر بآلة تصوير سينمائية وأعرضك على شاشة جهاز الفيديو في بيتي.وسأوزع نسخاً من الفيلم على أصدقائي وعلى بعض محبيك. وربما أرسل منه ثلاث نسخ إلى العراق. واحدة إلى الكوفة والثانية إلى السماوة والأخيرة إلى عاصمة خليفة المسلمين المطيع لله في بغداد. سيراك معز الدولة البويهي. وسيراك وزيره المهلّبي ثم خصمك اللدود الحاتمي. قال ضاحكا : ترسلني هكذا عاريا بدون ثياب إمبراطور صديقنا فوزي كريم ؟ قلت بل سأجعلك بالعري أكبر منه. سأجعلك ملك ملوك الشعراء، ( شاهنشاه ) شعر وشعراء العرب، العاري منهم والمدّثر والمتسربل … يا أيها المُسّربِل. قال ثم لمن سترسل فيلمي عاريا ؟ سأرسل نسخة إلى إتحاد الكتاب والشعراء العرب. ونسخة إلى ( كوفي عنان ) سكرتير عام هيئة الأمم المتحدة. قال قد أجد تفسيرا أو تبريراً لنسخة إتحاد الكتاب العرب ولكن ما علاقتي بالسيد كوفي عنان وهيئة الأمم المتحدة وما كنت يوماً سفيراً لبلادي وما كنت قنصلا ولا مستشارا ولا وزيرا مفوضا ؟ قلت إحتجاجا على وضع الشعراء والمثقفين المشردين والذين يعانون الأمرّين في دنياهم. أنت رمزهم ومثالهم وقدوتهم وحامل الراية. فلنتذكر الشاعر محمود درويش والشاعر سميح القاسم. لنتذكر شعراء العراق من الشباب المشرد والهارب واللاجيء والذي يكتب ولا يجد دارا تنشر ما يكتب. جسدك العاري هو الصرخة المدوية في مجمع الشعوب والأمم في نيويورك حيث يثرثرون عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. جسدك هو بصمات أصابع المثقف العراقي الأبي الذي لا يقبل ضيما. جسدك النقي هو القرطاس وهو القلم. إرفعْ صوتك عاليا بإسمي وإسم جميع من ذكرت. قل لهم لا أملك شيئا في دنياي. قلْ لهم لا أريد إلاّ حريتي ورأسا مرفوعا عَلَماً فوق قامتي. أنشدْ لهم شعرك (( بمَ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنٌ)). قل لهم لا أريد ثياب الإمبراطور فلقد كان أبونا آدم وقرينته أمّنا حواء عاريين في الجنة حتى أغواهما الشيطان فأكلا من شجرة الخُلد ففوجئا أنهما عاريين من شدة الخجل ولم يجدا ما يستران به عورتيهما إلاّ وريقات من بعض شجر الجنة التي حرما منها في نهاية المطاف. قال بل وأزيد إني لا يضيرني أن يراني العالم عاريا ما دمت لم أقترف إثماً ولم أرتكب معصية ولم أتناول شيئا محرّماً. لم أزنِ ولم أتغزل كما كان يفعل أبو نؤاس بغلام. تعري البريء تأكيد لطهارته ونقاء روحه وصحة جسده وخلوه من الأمراض والأوبئة الخبيثة. قلت له تقول إنك لم تزنِ ولم تلُطْ أو تتغزل بغلام، لكنك تغزلت بالفعل بغلام مرة واحدة في بيت واحد من أشعار ديوانك الضخم إذ قلت

              وأغيدَ يهوى نفسَه كلُّ عاقلٍ         عفيفٍ ويهوى جسمَه كلُ فاسقِ

إنزعج أبو الطيب قليلا فقال : يا رجل، ليس الوقت وقت مزاح. أين الغزل في هذا البيت ؟ كنت أؤكد على نفس هذا الغلام التي تجتذب إلى هواها عقلاء القوم. هنا الثنائية التي طالما كنت توليها أكبرأهتمام. العاقل يهوى النفس والفاسق يهوى الجسم، واضح ؟ واضح جدا يا أبا الطيب. أعتذرُ، فلقد كنت واقعا تحت تأثير بعض نقادك. أعتذر والعذر عند كرام الناس مقبول .
رافقته حتى بيته وكان متعبا قليلا ومخدرا من كثرة الطعام ومما قد سمع من أمور رآها كالأحلام عارية في مرآة الزمان. الأحلام تصبح واقعا في هذه الأيام يا أبا الطيب. فلنظل نحلم .