| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عدنان الظاهر
www.mars.com

 

 

 

الأثنين 12/11/ 2007



سياحات خيالية (3) / أميرة وسعاد

عدنان الظاهر

سياحات خيالية (3)
كنتُ وحيداً في بيتنا ذات مساء صيفي أحضّر نفسي لإمتحانات البكالوريا النهائية . سمعت قرع جرس باب بيتنا يرن بدقات رقيقة متقطعة . ذهلت . صعدت دمائي في رأسي . إرتعشت ساقاي . ماذا أرى أمامي ؟ سعاد ... ممرضة مستوصف صحة الطلاب ، صاحبتي التي ورطني صديقي جميل بها ومعها ، ورطة لها أول على ما بدا لي وليس لها من آخر . ما كانت وحدها . مفاجأة أخرى كبيرة . جاءت وبصحبتها صديقتها ، ممرضة مسيحية يعرفها أهل مدينتي من جيلي ذاك . جاءت ( أميرة ) مع باقي أفراد أسرتها إلى مدينتنا من مدينة الموصل فكانت عائلتها الكريمة موضع إهتمام وعناية وإحترام أهل المدينة قاطبة ً . ما كنتُ أعرف ( أميرة ) ، أعني لم نلتقِ يوماً لا في بيت أهلها ولا في بيت أهلي ولا في المستشفى التي تعمل فيه . كنت أراها في شوارع المدينة تروح صباحاً إلى مستشفاها وتؤوب منه بعد الدوام . لماذا جاءت بيتنا ذاك المساء مع صاحبتي سعاد ؟ لم تكن تعرف أحداً من أهلي ، لا شقيقتي ولا والدتي ولا أحداً من أشقائي . إرتبكتُ ، فقدت السيطرة على نفسي ، على لساني ، على تفكيري . ما تفسير هذه الزيارة الليلية المفاجئة ؟ زيارة بدون موعد أو إتفاق بشأنها أو بخصوص توقيتها ؟ بعد جهد جهيد ــ وأنا صادق فيما أقول ــ إستطعت أن أعتذر من الزائرتين أني لا أجرؤ على إدخالهن إلى بيتنا ، ببساطة ، لأني كنتُ وحيداً . باقي الأهل جميعاً كانوا خارج الدار لهذا السبب أو ذاك . أضفت في لحظة إلهام أتاني ببعض الشجاعة وبحرارة وعفوية وصدق : إنه سوء حظي ... سوء حظي أن لا يكون معي أحدٌ في الدار من أهلي . إعتذرتا وإنصرفتا . قفلت الباب وعدتُ إلى حجرة دراستي الأمامية. لم أستطع مواصلة الدراسة . ظل فكري مشغولاً بهذه الزيارة الفجائية وبمن قام بها . يا لجرأة المرأة ! ليت لي جزءاً يسيراً من هذه الجرأة بل الجراءة. أجهدت ُ نفسي لكي أستعيد السيطرة على زمام أموري التي إنفلتت على حين غرّة مني . أجبرت نفسي على تناول كتاب الكيمياء في محاولة لمتابعة الدراسة وضبط المعلومات والمعادلات وحسابات المسائل الرياضية . كيف أستطيع ضبط تعادل رموز العناصر وصيغ المركبات الكيميائية المعقدة وأنا مضطربٌ فاقد لتوازني الجسدي ( ظللتُ لفترة زمنية طويلة أرتجف وأصابعي ترتعش ) والنفسي عاجزٌ عن ضبط أعصابي وتداعيات أفكاري السود والبيض والخضر والحُمر ؟ كيف أتتني هذه البلية وتم توقيتها بعد الساعة الثامنة والنصف ليلاً ؟ ما سر هذا التوقيت ؟ هل كنتُ أنا المقصود بهذه الزورة الخاطفة أم جاء الزوّار لتعميق معرفتهم وصداقتهم مع أهلي ؟ بل أنا المقصود . هكذا رسوتُ على هذا الإستنتاج الصعب . كنت منحازاً لنفسي ، أخادعها ، أمنّيها بعسل وخمور جنات الخُلد . أنا المقصود وأنا المُزار ، لا أختي ولا أمي ولا أخي الأكبر مني ولا بالطبع والدي . أنا أنا ... أنا أنطونيو وأنطونيو أنا !! عدتُ بعد لأي لكتاب الكيمياء بنصف تركيز لا أكثر . دقيقة مع صفحاته وأخرى مع خطفة الزائرتين . أدخلت نفسي في صراع مرير أنتصر تارةً فيه فأعيد نفسي إلى كتابي ودراستي وأخسر الجولات تارات ٍ أُخرَ فأتيه وأسيح مع سعاد وأميرة . تركيز وشرود ذهني . جاء الأهل قبل العاشرة بقليل . أطلوا عليّ كعادتهم يستجلون أمري مع كتبي وإستعداداتي للإمتحانات النهائية القادمة الصعبة . كانت المروحة الكهربائية المنضدية تدور ناقلةً رأسها يميناً وشمالاً تحرك هواء الغرفة فيبرد قليلاً ويدفع عني غائلة حر الصيف القائض . قالوا لي تصبح على خير ومضوا يعدون أنفسهم للنوم على سطح الدار . كعادتها ، أضافت الوالدة بحزم وبلهجة آمرة : لا تسهر طويلاً ، حافظ على سلامة عينيك . نمْ مبكراً لتستيقظ مبكراً وتواصل الدراسة نهاراً . حملت الوالدة سجادة السطح وفعل الوالد ما فعلت مستصحباً معه إبريقَ ماء ِ وضوءِ صلاةِ الفجرِ . أخذ أخي وأختي معهما نصف رقية حمراء مغرية ليضعاها على الحاجز الحجري الذي يستر السطح عن العيون المتطفلة [ نسميه تيغة ] ... كما هو شأن جميع البيوت العراقية دونما إستثناء . بالطبع لا أنفذ طلب الوالدة مني أن أنام مبكراً . كانت عادة جيلي أوقات الإستعداد لأداء إمتحانات البكلوريا السهرَ طويلاً سواء في البيوت أو المقاهي . السهر حتى مطلع الفجر ... ثم النوم حتى إلى ما بعد الظهر . الحق مع والدتي ولكن ، من يُصغي ومن يسمع صوت أمهات جيلنا ؟ بعد قليل سمعت صوت شخير الوالدة يشق جدران البيت . بصراحة ؟ لم أستطع مواصلة القراءة . لم أخبر الأهل بزيارة سعاد وصديقتها أميرة . كنتُ خائفاً من لوم شقيقتي وتقريع أخي الذي كان شديد الحرص على متابعة شأن دراستي وجهادي مع الكتب والمقررات الدراسية الكثيرة والمنوعة . سيسألونني ــ ومعهم كل الحق ــ ما سبب هذه الزيارة وكيف تمت ولماذا نُفّذت في غيابهم وفي ساعة متأخرة من الليل . معهم حق ولكن ما ذنبي . كنت بريئاً منها كل البراءة . أنا مّن فوجئ بها لا هم . أنا مَن صُعقت وكدتُ أن أنهارَ على مدخل دارنا لا هم . أنا الذي خسرت حصيلة جهاد ليلة كاملة مع الكتب والتحضير . أنا الضحية ولا من أحدٍ غيري . من يصدق دفاعي وحقيقة ما حصل ومن أني بريء لم أخطط ولم أدبر في ليل ٍ ولم أتفق على موعد مع هاتين الفتاتين ، مَن ؟ أبي هو الوحيد الذي لا يتدخل في شؤوني أبداً ، لا يسائل ولا يحقق ولا يسبب لي أية إحراجات ، لكنه أحد أربعة آخرين . قررت أن أخبر أهلي بما حصل في غيابهم صباح اليوم التالي وليكنْ ما يكن . ما كنتُ أعرف فنون إخفاء الأسرار والتعمية على المعلومات والأخبار . كنت صفحةً بيضاء لا شِية َ فيها . أخي هو الوحيد الذي سيواصل قلقه عليَّ وعلى مصيري ومستقبلي وبالتالي سيستمر يلاحقني بالأسئلة لماذا وكيف وعلى أي أساس و ... و ... صحوتُ ــ وقد نمتُ وكتابي في حضني مفتوحاً ــ على صوت والدي يتوضأ ويقرأ آياتٍ من القرآن الكريم بصوت يعلو حيناً ويخفت أحيانا . كنت أحب سماع صلاة الوالد فجراً . أطرب لما يقرأ . أشاركه خشوعه وإنصرافه الصادق لمناجاة السماء . كنتُ أشعر بالإعتزاز بتقوى الوالد فأزداد قرباً منه وتتعمق علاقاتي به فغدونا مع مر الزمن أصدقاءً . أزوره نهاراً أحياناً في مقهاه . يرحب بي وينادي فوراً وبصوتٍ عالٍ عامل المقهى ويطلب منه تقديم ما أشاء من المشروبات . كنتُ دوماُ أطلب زجاجة كوكا كولا وكان مشروب الكولا الأمريكي حديثَ عهد يومذاك . واصلت نومي وقد أنهكتني زيارة ليلة أمس وأضاعت مني جهد ليلة كاملة لم أفدْ منها مشتتاً وموزعا ً بين أفكار متباينة شتى ومشاعر متضاربة شديدة الإلتباس . هل ستنتصر إرادتي عليها فأنهض منتصراً معافى لإستأنف الدراسة بالجدية المطلوبة ؟ هذا هو السؤال الصعب . صرتُ أخاف البقاء في البيت وحيداً . هاجس قوي كان يلاحقني بلا هوادة . ربما ، ربما ستكرر سعاد زيارتها لنا في بعض الليالي . وحدها أو برفقة صديقتها أميرة . فضيحة ، نعم فضيحة ! لو جاءتا ثانية دون موعد أو إتفاق والأهل في البيت ، كيف سأتصرف ؟ هل سيلومني الأهل ولا أستحق اللوم أساساً ؟ هل عندئذٍ سأخسر ليلة دراسية أخرى وأتحمل العذاب والقلق وضغط الوساوس وضرب الأخماس بالأسداس ؟ هل سأنشق على نفسي فأُعاني ما أُعاني من صراع بين الإرادة الخيّرة وإغراءات الشيطان ؟ ليس لي أي إيمان بالشياطين . الشيطان ملتف ٌ في دواخلنا . نحن الشيطان ونحن ملاك الخيرمجتمعان معاً . ستنتصر لا ريبَ إرادتي . سأنسى سعاداً ومن تأتي مع سعاد . ليفتحَ أهلي لهما باب البيت . غدوت شاباُ محنكاً في أمور الستات . لا أرضخ لغوايات الشياطين . لا أؤمن بها . إيماني بإرادتي فقط . الإنسانُ إرادة ، وللإرادة قوة إسمها قوة الإرادة . ما كنتُ أعرف يومذاك تعبير الفيلسوف الألماني نيتشة (( إرادة القوة )) .
فكرت جدياً أن أزور مستوصف صحة الطلاب لأعاتب صاحبتي الممرضة سعاد على زيارتها المفاجئة التي سببت لي الكثير من الأوجاع والمصائب . وأن أرجوها أن لا تكررها فالإمتحانات النهائية على الأبواب. وأن أعدها أني سأرتب لها بعد الإمتحانات موعداً لزيارة الأهل في وقت يناسب الطرفين . وسأحاول جهد الإمكان أن أظل في البيت طيلة فترة مكوثها ضيفة علينا .

مايس 2007
 


 

free web counter