| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

                                                                                 الثلاثاء 6/9/ 2011

 

نظام القذافي .. نظرة من الداخل .. بعيون عراقية
(1)

علي ألأسدي

" العبد هو من ينتظر من يحرره " - (الشاعر عزرا باوند)

عندما ابتهج العراقيون بسقوط النظام الصدامي وهلل بعضهم بالقوات الأمريكية التي أسقطته استنكر الليبيون التصرف العراقي ، وكانت اشارات عدم الرضا قد وجهت للمواطنين العراقيين العاملين في ليبيا حينها ، بعد أن كانوا يحظون بتقديرهم حتى تلك اللحظة ، فصدام بالنسبة لأولئك الليبيين بطلا قوميا لخوضه الحرب ضد الفرس دفاعا عن البوابة الشرقية للوطن العربي. الآن يقترب المسلحون الليبيون من النصر على آخر معاقل القذافي ، بفضل صواريخ وقذائف طائرات الناتو ، وبمساعدة قوات خاصة بريطانية وفرنسية على الأراضي الليبية لارشاد قيادة الناتو الى المواقع المستهدفة على الأرض. نشوة النصرعلى القذافي ربما ستجعلهم يشعرون بالاثم لاساءتهم معاملة العراقيين عام 2003 ومابعدها ، وربما سيعبرون عن اعتذارهم لهم ، لكنهم لن يجدوا من يعتذرون له فقد غادروا ليبيا بعد أن خدشت مشاعرهم وامتهنت حقوقهم. ليس هذا موضوع المقال ، انما كانت الاشارة إلى ذلك ضرورية قبل الخوض في الحديث عن الحالة الليبية وتعقيداتها إبان حكم القذافي وما بعدها.

قوى المعارضة الليبية تستعد هذه الأيام لشن هجومها على آخر معاقل القذافي في سرت وسبها والجفرة وجيوبا صغيرة أخرى أقل أهمية ، إنما الأهم فيما تحقق لحد الآن هو طرابلس العاصمة التي أصبحت تحت هيمنة طائرات حلف الناتو بعد سلسلة من الغارات على مواقع عسكرية ومدنية كان يتحصن فيها بعضا من أنصار القذافي من مدنيين وعسكريين. لكن ما يزال الغموض يحيط بحجم تأييد الطرابلسيين للمسلحين الذين انطلقوا من مدينة بنغازي خاصة ، وفيما اذا كان دخولهم طرابلس يشكل تحولا مهما في العمليات العسكرية التي بدأت في 17 آذار / مارس الماضي. ويظل السؤال المهم بدون اجابة واضحة أو شافية ، وهو: هل دخول طرابلس شكل انعطافة كبيرة لصالح قيادة المجلس الانتقالي باعتباره الممثل الشرعي للمعارضة الليبية ، أم بداية لانتكاسة سياسية لم يتوقعها قادة المجلس ، وكذلك أولئك الذين احتفلوا في الساحة الخضراء بانتصارهم على مقاومة الطرابلسيين؟

قد تعتبر المعركة التي خاضها مسلحوا الشرق على الطرابلسيين " بأم المعارك " على غرار " أم المعارك " التي خاضها صدام حسين في حرب الثماني سنوات مع الايرانيين في الثمانينيات من القرن الماضي. لكن معركة صدام حينها كانت مع " الفرس المجوس " التي حظيت حينها بمباركة أكثرية الليبيين سواء كانوا من الشرق أو الغرب الليبي ، أما معركة طرابلس فبين الليبيين أنفسهم ، ولا يمكنهم ولا يحق لهم أيضا أن يعتبروها انتصارا ، فالدماء التي سالت في شوارع طرابلس كانت ليبية وعلى الأرض الليبية وبين ليبيين كلا منهم يعتقد انه على صواب في الدفاع عن مصير بلاده ، فليس هناك عدوا أجنبيا يحاربونه ، وبالتالي فمن سقط في معركة طرابلس ومصراته وبن وليد والبريقة وتاجوراء وترهونة وغيرها من المدن هم شهداء ليبيين سيتذكرهم أهاليهم وأقاربهم وأصدقائهم بالحزن وبالاعتزاز والذكر الحسن. وحتى تنجلي الأمور أكثر يجب علينا الانتظار بعض الوقت لنعرف تبعات ما جرى ، فللقبلية والبداوة رأيا أخر فيما حدث ، وبعدها سيكون بامكاننا قول ما لم يكن بوسعنا قوله الآن. فما جرى في ليبيا خلال الشهور الستة الماضية سيكون موضوع تقييم المؤرخين والمحللين السياسيين ، وسيكشف المستقبل عن حقائق ، ويزاح اللثام عما جرى خلف الكواليس في واشنطن وباريس ولندن وقطر والرياض وأنقرا ، عند ذلك تسود وجوه وتبيض أخرى.

أوردنا هذه المقدمة تمهيدا لمحاولة التعرف على ما يمكن أن تتمخض عنه الانتفاضة الحالية ، وفيما اذا ستحقق السلطة الجديدة ما لم تحققه السلطة خلال الحقبة القذافية التي ستؤول قريبا إلى الماضي. المجتمع الليبي أكثر المجتمعات العربية في المغرب العربي تعلقا بالقبلية ، لكنه بنفس الوقت يماثلهم في التفاني بحب الوطن والعقيدة الدينية والمذهبية السائدة وتأديته للطقوس الدينية والتزامه بأصول الدين الاسلامي من حج وعمرة وصلاة وصوم وزكاة ، لكن من دون التزمت الذي يتميز به مسلمو بعض بلدان المشرق العربي.

شكل الطلبة والأساتذة في الفترة التي سبقت انقلاب القذافي النواة لحركة ديمقراطية فتية كانت تعمل بأسلوب سلمي لنقل بلادها إلى نظام ديمقراطي تترسخ فيه تقاليد التداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع. وحينها حاول بعض أساتذة الجامعات تكوين تنظيما ماركسيا كخطوة أولى لتأسيس حزبا شيوعيا ينطلق تنظيمه ونشاطه من ثاني مدينة ليبية بعد طرابلس وهي بنغازي على غرار البلدان العربية المجاورة ، فليبيا البلد الوحيد في المغرب العربي الذي ليس لها حزبا شيوعيا. وقد مهدوا لذلك من خلال اتصالهم بعراقيين مقيمين مؤقتا للعمل في التدريس الجامعي ، كانوا موضع ثقة أخوانهم الليبين. وكان لتلك المجموعة علاقة ببعض زملائهم من العاملين في طرابلس ممن كانوا على صلة بهم أثناء دراستهم في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية سابقا. لكن تلك المحاولات أحبطت بعد انقلاب القذافي في عام 1969 قبل أن ترى الحياة ، حيث تم التنكيل بهم واعتقال العديد منهم ، وهرب آخرون إلى خارج البلاد ، وتخلى البعض الآخر عن مواصلة نشاطه ، ولم يكتفى بذلك بل قامت الجرافات بازالة بيوتهم وتحويلها إلى أرض فضاء. وايغالا في فرض سلطته الفردية ابتكر القذافي أسلوبا غوغائيا لغسل أدمغة المجتمع الليبي ، وبخاصة الأجيال الشابة منه ، فأشاد نظاما شبه بوليسي يعتمد على اجبار الشبيبة للانخراط في تركيبته ونشاطه والترويج له داخل ليبيا وخارجها. وعبر الترغيب والتخويف اضطرت الحركات الفكرية والسياسية المحدودة جدا إلى العمل تحت الأرض أو خارج البلاد ، بينما انصاع آخرون وساروا مع المهرجين ، ومع كل الحذر الشديد من قبل من أصروا على الاستمرار وقع بعضها في أفخاخ النظام الذي كانت له عيون في كل زاوية من زوايا المجتمع الليبي.

وخلال فترة حكم القذافي ومنذ استلامه السلطة عام 1969 وعلى غرار ما كان يتبعه قدوته ومثله الأعلى حينها الرئيس جمال عبد الناصر ، شن القذافي دعايته وركز جهوده بشكل مكثف لمحاربة الشيوعية ، لا لخشيته من حزب شيوعي قوي قد يهدد سلطته ، ولكن ليثبت للغرب وللولايات المتحدة بشكل خاص أن انقلابه والسلطة المنبثقة عنه لا تمت للشيوعية بصلة ، وأنه عدوا لدودا لها ، وبناء عليه يمكنهم الثقة به والتعويل عليه في محاربتها في المنطقة. وقد صدق ، فعندما حدث الانقلاب العسكري ذي التوجه اليساري ضد رئيس السودان حينها جعفر النميري عام 1971 ، كان بعض المشاركين فيه في بعثة تدريبية في بريطانيا وقت الانقلاب قفلوا عائدين للوطن بناء على طلب رفاقهم قادة الانقلاب. عندها تلقى القذافي أوامر من سادته في واشنطن ذلك الوقت بالتصدي للطائرة التي يسافر على متنها الضباط السودانيون الشباب ، فلم يتردد ، فقام على الفور بارسال طائراته العسكرية صوب الطائرة المدنية التي كانت في الأجواء الليبية باتجاه بلدهم السودان المجاور وأجبروها على الهبوط في مطار طرابلس. كانت الخطة هي تأخير وصولهم إلى السودان ، ريثما تنجح محاولات افشال الانقلاب ، لأن الضباط العائدين يعتبرون مصدر قوة لقادة الانقلاب. لقد أصيبت الدول الرجعية العربية بالرعب منذ لحظة الاعلان عن الانقلاب ، فبذلوا ما استطاعوا لانقاذ نظام النميري بأي صورة ومنع وصول الضباط إلى العاصمة السودانية ، وهذا ما حصل بالفعل. فبعد فشل الانقلاب لم يطلق القذافي سراحهم ، او يعيد الطائرة إلى مطار هيثرو في بريطانيا كما تنص على ذلك قوانين الطيران المدني ، بل أراد أن يثبت بالدليل القاطع أنه عبد مخلص لا يضاهيه في عمالته أحد وأنه يمكن الاعتماد عليه ، فقام بتسليمهم يدا بيد للنميري وهو على علم بالمصير الذي ينتصرهم ، وبتصرفه ذاك أثبت خروجه حتى عن التقاليد العربية وقيمها ، ولم يثنيه عن جريمته تلك طلب بريطانيا منه في أخر لحظة بأن لا يفعل. لقد تم اعدام الضابطين بعد فترة وصولهم بفترة قصيرة ، برغم احتجاج منظمات دولية عديدة وزعماء دول ومسئولين كبارا في العديد من دول العالم. لقد نجح القذافي نجاحا باهرا في مهمته التي جاء من أجلها ، وهي تصوير الشيوعية في مخيلة الليبيين بكونها الشر الأعظم ، والأثم الأعظم ، والكفر الأعظم ، وجريمة لا تكفي جهنم عقابا لمرتكبيها. وما تزال أفكار القذافي التي بثها خلال حكمه سارية ومتفشية في عقول الليبيين لحد اليوم بما فيهم المسلحون ومعارضيه ، والغريب أنه فعل ذلك في بلده الذي لم يتأسس فيه حزبا شيوعيا أو ديمقراطيا قد يكون مصدرا لانتشار الشيوعية ، فهو كان يحارب عدوا غير موجود أصلا.

لقد عمل القذافي في بداية حكمه على تأسيس تنظيم مماثل لذلك الذي أقامه الراحل عبد الناصر باسم الاتحاد الاشتراكي في مصر، لكن وفاة عبد الناصر أفشل ما كان ينوي تأسيسه. فحاول القذافي أن يحتل موقع الراحل عبد الناصر بتقمصه شخصيته ، ورفع شعاراته ، والسير بالاعلام الليبي بالاتجاه نفسه الذي سار عليه عبد الناصر ، فلم يحظى بقدر ولو ضئيل من تراثه وقدراته وشخصيته المؤثرة التي فاقت خيال القوميين العرب المهووسين حينها بالوحدة العربية والقومية العربية التي كان عبد الناصر يرددها في خطاباته التي تستمر ساعات. لم يكن القذافي الوحيد الذي حاول البناء على الأرض نفسها التي سبقه فيها عبد الناصر ، بل كان للقذافي الكثير من المنافسين في الغوغائية ، حيث سبقه بذلك البعثيون والناصريون والقوميون العرب في البلدان العربية وبخاصة في سوريا والعراق الذين تصدروا المسرح السياسي على حساب الخطاب الناصري. وبعد سقوط ورقة عبد الناصر الذي حاول القذافي لعبها وفشل بادر إلى تقديم نفسه كمنظر وثائر عابر للحدود ، فاطلق بداية السبعينيات كتابه الأخضر ورؤيته الفنطازية الشاملة " النظرية العالمية الثالثة " كبديل للنظام الاشتراكي والراسمالي الذي أعلن عن موتهما بصدور نظريته الثالثة الجديدة.

لقد شكل القذافي جهازا اعلاميا كبيرا للدعاية لنظريته ، وخصص لها الملايين من الدولارات عبر النشر المقروء والمسموع والمرئي ، ولشراء الناس من ذوي الاختصاص في الاقتصاد والأدب والشعر والتاريخ والسياسة ، فكانت فرصة للارتزاق للكثير من باعة القلم والضميرعربا وأجانبا ، وعدلت البرامج التعليمية في المدارس والجامعات لتتضمن شروحا ونصوصا من ذلك الكتاب الأخضر والنظرية العالمية الثالثة. كان الغرض هو غسل الأدمغة بوسائل ساذجة وبدائية أريد بها دحر الفكر الاشتراكي الذي كان قد لقي قبولا بين فئة المثقفين وطلبة الجامعات واساتذتها في بداية الستينيات وبداية السبعينيات. وشنت حملة هستيرية داخل الجامعتين الوحيدتين في طرابلس وبنغازي حينها ، ألقي القبض خلالها على عدد من الطلبة والأساتذة والتشهير بهم علنا في المدارس والجامعات لبث الرعب في نفوس الشباب الذي كان يخشاه هو أكثر من أي عدو آخر. وفي الثمانينيات شنت حملة ارهابية جديدة أشد همجية لتصفية قادة طلابيين ونقابين وكتابا وشعراء وغيرهم ، انتهت أما بزجهم في السجون بدون محاكمة ، وتنفيذ أحكام الموت بالبعض الآخر في الحرم الجامعي ، حيث نصبت المشانق في أروقتها في مشهد لم يماثله في وحشيته ما مارسته الهتلرية خلال حقبتها في أوربا بعد مجيئ هتلر إلى السلطة ، والأكثر همجية من ذلك كله هو اجبار الطلبة على تنفيذ عملية تنفيذ حكم الموت بزملائهم والتهليل لها تحت اشراف مرتزقة هيئوا لهذا الغرض.

أما الحركة النقابية فقد قمعت هي الأخرى ، وأجبر العمال على الدخول في لجان ادعي أنها تمتلك المشاريع التي تعمل فيها ، وأصبحوا شركاء يتقاسمون عوائدها ولم يعودوا عمالا بل شركاء. وهكذا أنهيت الاتحادات الطلابية والتدريسية والأدباء والفنانين وأصحاب المهن الحرفية واتحادات الفلاحين وغيرها. وتأكيدا على ذلك قامت الجرافات الحكومية بالزحف على الرمز الوحيد المتبقي من فترة الديمقراطية القصيرة التي أتاحتها آخر حكومة من العهد السنوسي السابق ، وهي بناية اتحاد النقابات التي سويت بالأرض واختفى اسمها من الخارطة الليبية ، واختفت تماما مصطلحات اتحاد ونقابة ورابطة ومعمل وشركة ووزارة ومديرية وأزيل مصطلح الجمهورية ليحل محله الجماهيرية ، وأصبح الشعب كله مؤتمرا عاما يكون بديلا لمجلس نواب منتخب من قبل الشعب. اسلوب مبتكر في تزييف الارادة وتشويه المفاهيم والثقافة السياسية ، والاستهانة بالمكونات الطبقية والاثنية والقومية والدينية والاجتماعية للمجتمع الليبي ، وقمع أي حركة تنزع لنيل حقوقها القومية في اللغة والثقافة والتقاليد التاريخية ، كما كان الحال مع الأقلية الأمازيغية ذات اللغة والديانة والتاريخ والتقاليد والثقافة المتميزة السائدة في المغرب العربي. ومع أن نسبتهم داخل المجتمع الليبي قد تصل إلى 15 % ، وربما أكثر من ذلك ، فقد جرى تهميشهم تماما. عدد الأمازيغ قد يتجاوز المليون نسمة ، ومع ذلك لم تكن لهم مدارسهم الخاصة التي يتعلم فيها أطفالهم لغتهم القومية وتراثهم الثقافي وتاريخهم.

يتبع

 


 

free web counter