| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

الأحد 6/6/ 2010

 

اشتراكية اقتصاد السوق الصينية ... وماذا بعد.. ؟
(2)

علي ألأسدي - البصرة  

كنا قد استعرضنا التغيرات البنيوية في نظام الاشتراكية الصينية التي تنحرف بها سريعا نحو نظام رأسمالي قائم على الاقتصاد الحر، منفتح على رأس المال الأجنبي وبالأخص الأمريكي الذي ينجح كل يوم في اجبار السلطات الصينية على ازالة القيود التي ما يزال بعضها يحد من حرية حركة رؤوس أموالها من والى الصين وداخلها أيضا. وتحدثنا عن تصاعد دور البرجوازية في التحكم بالاستثمارات والثروة القومية والدخل القومي للبلاد على حساب الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب الصيني. وقد قادت التحولات هذه إلى خروج السلطة الحاكمة عن الالتزام بمبدأ التخطيط الاقتصادي في تنمية الاقتصاد الوطني الذي اعتمدته السلطة الثورية منذ بدء بناء الاشتراكية عام 1949 ، واستبدلته بنظام بديل يعتمد مؤشرات غير ملزمة يتناسب مع نظام اقتصاد السوق. كما قامت السلطة الحاكمة ببيع تدريجي لمشاريع اقتصادية اساسية في الملكية الاشتراكية لشركات خاصة أسسها قياديون في الدولة والحزب لمصالحهم الخاصة. وأصبح تسيير هذه المشاريع لصالح أصحابها الجدد مستفيدين من حوافز الربحية أساسا لنشاطها الاقتصادي. لقد تركت الشركات الجديدة هدف تحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المادية والبشرية لصالح الشعب عائما ، بل مشروطا بمدى تحقيق هذا الهدف لمصالح المالكين الجدد. وعند الحديث عن الاستخدام الأمثل لقوى العمل في البلاد لا تبدو الصورة وردية كما تعرضها أرقام ثروات الأثرياء.

فقد ذكر موقع البي بي سي البريطانية ، في العشرين من مايو 2010 تقريرا لمراسلها في بكين نقلا عن الكلمة التي القاها خلال اعمال مؤتمر الشعب الصيني ، وزير القوى العاملة تشينج بيجنج جاء فيه : " إن بلاده تواجه ازمة عمالة خطيرة جدا. حيث اكثر من عشرين مليون عامل جديد يدخلون سوق العمالة الصينية في السنة الواحدة لا تتوفر لهم إلا 12 مليون فرصة ، ما يعني أن ثمانية ملايين عاطل سيبقون خارج الخدمة تماما بدون أمل كل عام ، هذا إذا صحت الأرقام التي تحدث عنها الوزير. لكن المراسلين لهم رأي آخر ، حيث يقولون إن احصائيات البطالة الرسمية لا تعكس صورة الوضع بشكل دقيق، حيث انها تحصي عدد العاطلين في المدن فقط ، ولا تتعداهم الى عاطلي الارياف الذين قد يبلغ عددهم أضعاف أرقام العاطلين في المدن. هذا اضافة الى عدد آخر يتجاوز الخمسة ملايين عامل فقدوا وظائفهم هذا العام وحده ، بسبب توقف المشاريع الاقتصادية التي كانوا يعملون فيها ، بسب تداعيات الأزمة المالية العالمية ، كما تواجه السلطات الصينية مصاعب اخرى تتأتى من الاعداد الكبيرة من خريجي الجامعات الذين ينضمون الى سوق العمالة سنويا.

و تتحدث وزارة القوى العاملة عن هدف ابقاء العطالة ثابتة بنسبة 4.5 % ، وهو مبدأ رأسمالي بحت ، يقصد به القبول ببطالة القوى العاملة في حدود هذه النسبة ، لتشعر العاملين بأن استبدالهم قائم دائما بأولئك العاطلين اذا ما أخلوا بالتزاماتهم تجاه أرباب العمل. انه مبدأ جائر اجتماعيا وفظ أن تفرض البطالة على قطاع واسع من القادرين على العمل فقط للحفاظ على مصالح الرأسماليين. ان الوصول الى هذه النسبة برغم ذلك غير ممكن ، بل يعتبر مستحيلا في حالة الصين التي تشهد هجرة الملايين من سكان الريف نحو المدن الصينية الصناعية بحثا عن فرص العمل فيها. وهذا يخلق جملة من المشاكل في آن واحد للراغبين في العمل ولأرباب العمل وللدولة على حد سواء. فغالبية المهاجرين من الأرياف لا تتوفر فيهم المؤهلات التي تتطلبها الوظائف المتاحة في الحقول الصناعية وفي قطاع الخدمات التي تتطلع لمؤهلات تقنية عالية التخصص ، وبالتالي يتعذر استيعاب الباحثين عن العمل من ذوي الأصول الفلاحية. يطرح هذا الواقع أمام وزارة القوى العاملة ووكالات العمل في آلاف المدن الصينية مهمة توفير الدورات التدريبية لاعادة تأهيل العمالة الوافدة من الأرياف . وكما طرح وزير القوى العاملة في كلمته ان هناك حاجة من قبل أرباب العمل لحوالي خمسة ملايين فرصة عمل لا تجد من يشغلها لمتطلباتها الفنية العالية ، وهذا يضع على أرباب العمل والدولة مهمة جديدة هي توفير فرص التدريب والتعليم لتأهيل ورفع قدرات قوى العمل لسد النقص في الطلب عليها. لكن مهمة تدريب وتعليم بضعة ملايين من أبناء الريف والضواحي لا تحتاج فقط إلى الآلاف من مراكز التدريب ، ومئات الآلاف من المدربين ، بل وموارد مالية ربما تصل المليارات ، فهل ستقوم الدولة بهذه المهمة ، أم تتركها للسوق أيضا وتحت رحمة القطاع الخاص ، ولعلها تعلم أن الاخفاق في توفير هذا العدد من المؤهلين يشكل قيدا على نمو الاستثمارات الجديدة ، وعلى زيادة الانتاج في الحقول التي تعاني من شحة فرص العمل الماهر.

هناك جانب آخر لمشكلة القوى العاملة المهاجرة من الأرياف إلى المدن ومراكز العمل بحثا عن فرص العمل ، تتعلق بما يواجههم خلال رحلتهم هذه من أهوال ، فأغلبهم فقراء معدمون ، وبالتأكيد يتعرضون لمصاعب تدبير حياتهم المعاشية من غذاء وسكن وتكاليف تنقل قد تذهب بهم مئات الأميال بعيدا عن موطن سكناهم الأصلية ، مسببة للكثير منهم معاناة من الفقر والتشرد والاحباط في مدن لم يزوروها في حياتهم. وأمام جيش المهاجرين المتحرك في كل الاتجاهات في بلد تزيد مساحته عن تسعة ملايين كم ،لابد من توقع مشاكل اجتماعية متنقلة مع هؤلاء المهاجرين ، اضافة الى تفشي الجريمة المنظمة التي تضع على السلطات الأمنية أعباء استثنائية.

وبالرغم من تحقيق الصين لنسبة نمو اقتصادي بلغت 11 في المئة في العام الحالي، هناك مخاوف من ان يؤثر تباطؤ الاقتصاد الامريكي على صادرات البلاد وفرص العمل فيها ، لأن الاقتصاد الصيني يعتمد بشكل رئيسي على التصدير الى الأسواق الأمريكية ، كما وتشكل استثماراتها في الصين أهم رب عمل ومنتج ، بينما تحتل منتجات الصين التقليدية الجزء المهم الآخر من تلك الصادرات.

وتشجيعا لتدفق الاستثمار الاجنبي نحو الصين ، قال هو جنغيانغ من مكتب الاستثمار الخارجي في وزارة التجارة الصينية : إن الصين "لن تغير" سياسة تشجيع الاستثمارات الأجنبية " بعد أن حثت منظمة التعاون والتطوير الاقتصادي-OECD الحكومة الصينية على المزيد من الشفافية تجاه تدفقات الأموال الأجنبية إلى البلاد. علما أن الصين تستقطب حوالي 60.3 مليار دولار أمريكي كاستثمارات خارجية مباشرة في العام. وتتجه الصين الى إنجاز قانون منع الاحتكار وانشاء ما يسمى " نظام إجراءات الاندماج والتملك الشفاف " و سياسة السوق المفتوح بشكل كامل ، ورفع القيود المتبقية على المستثمرين الأجانب. ومن هذا نستنتج أن الصين تقدم التنازلات تلو التنازلات للفوز بالاستثمارات الرأسمالية التي تقوم بها الشركات الأجنبية ، حيث تأمل أن تقوم تلك الاستثمارات باستخدام ملايين العاطلين عن العمل الذين يشكلون بركانا قابلا للانفجار في أي وقت اذا لم تجد فرص العمل الضرورية لهم.

إن مليارات الدولارات التي أنفقتها الشركات الأجنبية العابرة للحدود في الصين قد استقرت هناك ليس بسبب عدم قدرتها بتحقيق الأرباح في بلدانها أو في بلدان أخرى ، وإنما لأن مستوى عنصر التكاليف المتغيرة في الصين التي تعتبرأجور العمل جزء أساسيا فيها واطئة جدا ، مقارنة بأسواق العمل الأخرى في العالم ، وهذا هو السبب الرئيسي لاختيارها التوطن في الصين سعيا لتحقيق أقل كلفة انتاج لمنتجاتها ، وبالتالي تعظيم أرباحها كما خططت لذلك قبل اختيارها الصين للاستثمار فيها. ولهذا فإن المستثمرين سيبقون في الصين ما دامت أجور العمل منخفضة ، بعكس ذلك سيتركونها إلى مواقع أخرى في العالم ، وهذا سيؤثر على عوائد الصين من تلك الاستثمارات ومن صادراتها.

ولهذا السبب فإن وزارة العمل تضغط لابقاء مستوى الأجور واطئا ومستقرا نسبيا ، لطمأنة ارباب العمل الأجانب والمحليين من جهة ، ومنعا لتزايد نسب التضخم المرشحة للزيادة مع كل توسع استثماري جديد ، أو أرتفاع بسيط في الأجور. وقد ارتفعت في شهر أبريل / 2010 نسبة التضخم الى 2.7 % ، في حين زادت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 2.8 % والعقارات بنسبة 12.8 % ، ويمكننا أن نتصور حياة البؤس والفاقة التي تعيشها جماهير العاطلين عن العمل وذوي الدخول الواطئة في طول البلاد وعرضها ، برغم نمو الاقتصاد العالي الذي تحقق هذا العام مقارنة بالعام الماضي حيث بلغ معدل النمو حوالي نصف معدله العام الحالي. وبحسب الأرقام الرسمية التي نشرتها الحكومة الصينية هذا العام ، مدعية أن جهودها التي استغرقت حوالي العشرين عاما لتحسين حياة حوالي 400 مليون مواطن كانوا يعيشون دون خط الفقر ، ما يعني أن ثلث تعداد سكان الصين قد تحرروا بدرجة ما من حياة الكفاف ، وهو خبر مفرح حقا وكل الأمل معقود أن يكون ذلك قد تحقق بالفعل. لكن التقارير التي تتحدث عن تفاقم البطالة وانتشار ظاهرة الفساد والجريمة والصراعات الطبقية والإثنية تنفي الكثير من الأرقام المتفائلة عن تحسن حياة الشعب الصيني ، وتضع رقم الأربع مئة مليون مواطنا صينيا موضع شك.

يتبع


اشتراكية اقتصاد السوق الصينية ... وماذا بعد.. ؟ (1)
 

 

free web counter