| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

                                                                                 الثلاثاء 29/5/ 2012

 

انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟
(3)

علي ألأسدي

تطرقنا في الجزء السابق من هذا المقال الى بعض المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي اوردناها للتدليل على أن دول الاتحاد الأوربي وبخاصة الدول الأقل تطورا والأبطأ نموا لم تحقق في حقيقة الأمر المكاسب التي كانت تحلم بها عندما انضمت الى الاتحاد الأوربي في سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي وانخرطت في عملية بناء أوربا جديدة تنشر الرخاء بين مجتمعاتها المتباينة ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وتتقاسم ثمار التقدم العلمي والتقني بشكل عادل ومثمر. هذه وغيرها كانت موضوع السؤال الذي طرحناه في نهاية الجزء الأول ، ونحاول في هذا الجزء والجزء الذي يليه الاجابة عليه من خلال تسليط الأضواء على الاتحاد الأوربي كمشروع ظل لثلاثة عقود أو اكثر متصدرا عناوين الأخبار في الاعلام المرئي والمسموع والمقروء كتجربة قل مثيلها بما قدمته للمجتمع الأوربي من فرص للتقدم والنماء. لكن ما سلطت عليه الأضواء طوال تلك الفترة الطويلة من التاريخ لم يكن الا جانيا واحدا من الصورة ، أما الجانب الآخر غير المرئي منها فهو المهمة التي يضطلع بها هذا المقال.

يعتبر معدل النمو الاقتصادي لأي بلد أحد أهم المؤشرات المعبرة عن تطور أو فشل هذا البلد او ذاك ، ففي حالة النجاح تنمو القدرات الاقتصادية والثقافية ويعم الرخاء كلما استمر النمو أو ارتفعت معدلاته السنوية. ليس لدول الاتحاد الأوربي أو منطقة اليورو شيئا من هذا ، بل بالعكس لقد سجل النمو الاقتصادي فيها تراجعا واضحا ، كانت الفترة منذ 2007 وحتى الوقت الحاضر أسوءها ، لا يمكن لأي مراقب أن يغض النظر عن ذلك أو ينفيه. منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD عرضت في تقريرها نصف السنوي الذي تصدره مرتين في العام عن حالة الاقتصاد في منطقة اليورو إشارات مقلقة عن المستقبل الاقتصادي لدوله السبعة عشر ، محذرة من انحدارها الى مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي المعتم. وناشدت المنظمة الحكومات والبنك المركزي الأوربي بالتحرك سريعا لتجنيب الاقتصاد العالمي الانحدار اسرع باتجاه الهاوية. كبير اقتصادي المنظمة بير كارلو بادوان قال : ان اقتصاد منظمة اليورو قد ينكمش بنسبة 2% هذا العام ، وهو أسوء مما توقعه. لقد كانت التكهنات بان اقتصاد منطقة اليورو سينكمش بحدود 0.01% ثم يبدأ بعده بالنمو بنسبة 0.9% في عام 2013 ، لكن مثل هذه التوقعات قد صرف النظر عنها ، فالانكماش على مايبدو حل ليبقى..

الاتحاد الأوربي اذن يتجه سريعا نحو مرحلة جديدة من الركود الاقتصادي ، فألمانيا الدولة الأغنى والأكثر تطورا بينها جميعا وتحتل مرتبة رابع اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين الشعبية واليابان ، حققت نموا اقتصاديا بلغ في الربع الأخير من العام الحالي أقل من نصف الواحد بالمائة ، وتشير التكهنات بتعرض الاقتصاد الألماني الى موجة جديدة من الركود بحيث يعود النمو الى مستوى الصفر وربما يتراجع الى دونه. أما في فرنسا ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو فقد أخفقت توقعاتها عن النمو الاقتصادي من بلوغ النسبة التي وضعتها كهدف ممكن تحقيقه ، وهي نسبة ( ‘عشر الواحد بالمئة ) في ربع السنة المنصرم من عام 2012 ويعود السبب في ذلك الى ضعف الاستهلاك المحلي وتناقص الاستثمارات الجديدة وهي ظاهرة عامة تشترك فيها جميع دول الاتحاد.

أما في بريطانيا فالاقتصاد هو الآخر ليس بخير ، ويتوقع أن تسوء حالته أكثر فأكثر خلال العامين القادمين بناء على المعلومات التي صرح بها المكتب الوطني للاحصاء ONS . ووفق تلك المعلومات فان الاقتصاد البريطاني انكمش خلال الربع الأخير من 2011 والربع الأول من هذا العام بنسبة ‘ثلث الواحد بالمائة. ويتوقع أن يتراوح النمو الاقتصادي بين الانكماش بنسبة ثلث الواحد بالمائة 0.03- % والنمو بنسبة 0.03+% ، وهي حالة لم تشهدها بريطانيا منذ عام 1970. وتزداد الضغوط على البنك المركزي البريطاني من قبل صندوق النقد الدولي لتخفيض سعر الفائدة الأساسي الى ما دون نصف الواحد بالمائة الذي هو عليه حاليا كحافز لتشجيع الاقتراض لمساعدة المشاريع الاقتصادية الصغيرة والقروض العقارية. وكانت رئيسة صندوق النقد الدولي السيدة كريستين لافار اثناء وجودها في لندن في الثالث والعشرين من ايار الحالي قد حثت على ذلك ، كما شجعت البنك على طبع المزيد من النقد لضخه الى السوق لزيادة الطلب الاستهلاكي.وقد مرت اليابان بأزمة مالية ومصرفية مشابهة عام 1990 اضطرت الى تخفيض سعر الفائدة من قبل بنكها المركزي الى الصفر.

وفي الوقت نفسه نشر المركز الوطني للمعلومات عن تعليم وتدريب وعمل الأحداث البريطانيين للفترة حتى الربع الأخير من عام 2011 والذي ورد فيها أن عدد الشباب من أعمار 16- 24 الذين هم خارج التعليم المدرسي و التدريب و العمل قد ارتفع من 925 الف شاب وشابة في الربع الأول من 2011 إلى 954 ألفا في الربع الأخير من 2011. أما عدد الشباب من أعمار 16 – 18 الذين لم يحصلوا على عمل او تدريب أو تعليم فقد ارتفع من 159 ألفا الى 183 الفا خلال نفس الفترة ، اما الرقم الاجمالي للعاطلين عن العمل فقد بلغ في بريطانيا نهاية عام 2011 مليونان وسبعمائة ألف عاطل ، وهو أعلى رقم تصله البطالة منذ 17 عاما.

وخلال نفس الفترة بلغت نسبة الانكماش الاقتصادي في ايطاليا ( ‘ثمن الواحد بالمئة ) 0.08- % في حين بلغ العام الماضي (‘سبع الواحد بالمئة ) 0.07-.% ولا يتوقع ان يحصل أي تحسن قي أداء الاقتصاد الايطالي في الشهور المقبلة ، وتعاني البلاد من دين سيادي عال برغم اجراءات التقشف وزيادة نسب الضرائب على مواطنيها. وضع الاقتصاد الاسباني ليس بأفضل حال من الاقتصاد الايطالي ، فقد بلغت نسبة البطالة فيها أكثر من عشرين بالمئة ، وهي أعلى نسبة يبلغها بلد عضو في منطقة اليورو بعد اليونان وهذا ما وضحناه بالتفصيل في الجزء السابق.

الاقتصاد الأكثر تعثرا وتراجعا وانكماشا في الاتحاد الأوربي هو الاقتصاد اليوناني ، حيث بلغ الانكماش في الأشهر الأخيرة من العام الماضي ( ستة و‘عشري الواحد بالمئة ) 6.2- %. وتنفذ الحكومة اليونانية سياسة تقشف قاسية يتحمل أعبائها العاطلون عن العمل وذوي الدخل المحدود من عامة الشعب في ظل توتر اجتماعي واسع بين الجماهير الشعبية.

الدراسة التي ضمناها مقالنا هذا عن حالة اقتصاد بلدان الاتحاد الأوربي ، وخاصة دول منظومة اليورو قد بينت كم هي سيئة حالة الاقتصاد والمجتمعات في الاتحاد الأوربي ، وهذا ما تعبر عنه المظاهر الاقتصادية والاجتماعية لاقتصاد الاتحاد ككل ، ولاقتصاد كل دولة على انفراد. لقد استغرقت تلك المظاهر العديد من السنين لتتضح معالمها ، وان عقدين أو اكثر منها تعتبر أكثر من كافية لتقييم دور هذه المؤسسة المتضخمة والمكلفة ماديا مبالغ هي فوق طاقة اكثرية البلدان العضو فيها. المظاهر الاقتصادية والاجتماعية التي استعرضها المقال بمجموعها لا تبعث على أي درجة من تفاؤل ، ليس فقط الآن ، بل وليس في الماضي ، كما ليس في المستقبل. مؤشرات مثل حجم البطالة بين الشباب من 15 - 24 محبطة لكل للمتفائلين قبل المتشائمين. وهذا ينطبق على معدلات نمو الناتج القومي الاجمالي لكل بلد ، وعلى العجز المالي في الميزانيات المالية السنوية ، وعلى المديونية السيادية.

لقد فشلت مؤسسات الاتحاد الاوربي في اتباع الخطوات الضرورية وفي الوقت المناسب لمعالجة ظاهرة العجز المالي في الميزانيات المالية العامة لوقفها عن الزيادة عن حدود معينة ، فهي تتزايد بوتيرة عالية. قبل عام فقط قامت قيادة الاتحاد الأوربي بوضع خطة لتقييد عجوز الميزانيات المالية ، وسارعت في الوقت نفسه بدراسة سياسة لتقليص المديونية السيادية للدول الأعضاء. لقد جرى هذا بعد عقدين من السنين من تنفيذ الدول الأعضاء سياسات باذخة للنفقات ، كان الغرض منها رشوة الجماهير الشعبية من ضعيفي الحال عبر اقتصاديات الرفاه لاقناعهم بأن الرأسمالية أم الرخاء الدائم والتقدم المزدهر.اليوم وبعد زوال مبررات ذلك الانفاق الباهض الذي أملته مناخات الحرب الباردة ، يحث الاتحاد الأوربي حكومات الدول الأعضاء لاسترجاع الأموال المدفوعة لضعاف الحال خلال العقود الماضية عبر ما أطلق عليه المنافع الاجتماعية. لقد ابتكرت سياسة التقشف كأداة تجبر الجماهير بواسطتها على اعادة دفع أثمان المنافع الاجتماعية قسرا ودون ابطاء. ليس للاتحاد الأوربي خيارات كثيرة لمساعدة الدول الأضعف اقتصاديا التي تفشل في استحلاب الأموال من شعوبها لتسديد ديونها المتراكمة غير اقراضها ملايين من اطنان الورق النقدي التي جرت طباعتها لهذا الغرض. أوراقا لا سلعا مادية ، لا ذهبا أو ولا اي معادن ثمينة ، بل مجرد ورق اسمه يورو. العملية هذه لن تضع الدول الأضعف اقتصاديا على طريق النمو الصحيح ، لأن الأموال التي اتت بها شاحنات الاتحاد الأوربي دخلت من أبواب وستخرج من أبواب اخرى بنفس الشاحنات. لن تستثمر في البنية التحتية المنهارة لاعادة بنائها ، ولن تأخذ طريقها الى الاستثمارات في الحقول الصناعية والزراعية والخدمات الأساسية ، لأنها ستأخذ طريقها الى التجار والمضاربين بالسندات الحكومية ، هذا اولا ، وثانيا ، لن تعالج مشكلة الدين العام جذريا أبدا ، لأن الدين السابق جرى سداده بقرض ذي فائدة أكبر وهذا سيضاعف حجم الدين العام مما يجعل من المستحيل تسديده ، الا بقروض أخرى أكبر واكبر، وهكذا الى أن تنهك الدولة حتى الانهيار الكامل. التاريخ هنا يعيد لعب مسرحية شكسبير عن جشع المرابي شايلوك الذي يمثله هنا أرباب رأس المال في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وصندوق النقد الدولي. الديون الجديدة ستكبل الدول المقترضة التزامات تستمر لعقود بفائدة أعلى ، وبناء عليه سيظل قائما خطر انهيار أكثر من دولة عضو في اليورو ، وغير مستبعد أيضا انهيار اليورو نفسه ، فقد يلبي هذا مصلحة حيتان الرأسمالية الكبار، فهؤلاء لا تربطهم مصالحهم المالية بأي وطن فهم متعددوا الجنسيات. وفوق كل ذلك يظل دور الاتحاد مفقودا كليا في تخفيف التفاوت الاقتصادي والثقافي بين دول ومجتمعات الاتحاد الأوربي ، مع أنه واحد من أهم مسئولياته التي لم يضعها ضمن أولويات سياسته الاقتصادية والاجتماعية.

 

 يتبع
 

انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟ (2)
انهيار اليورو.... أم إفلاس اليونان ...أم كليهما...؟ (1)

 

free web counter