| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

الأحد 24/5/ 2009

 

مدينة الشعلة ...نصب تذكاري ... لحكومات عراقية فاشلة...؛؛

علي الأسدي

لقد زرت مدينة الشعلة لأول مرة في شهر أكتوبر من 2003 ، وزرتها بعد ذلك مرات عدة ، وشاهدتها على الشاشة الصغيرة عشرات المرات أيضا ، فماذا أستجد من أمور في حياة تلك الرقعة المنسية من الوطن العراقي. من لم يشاهدها بأم العين و يتردد على مسامعه اسمها سيتبادر إلى ذهنه إنها مدينة حقا ، لها مركزها التجاري ، وشوارع رئيسة ، وأخرى متفرعة ، وعمارات سكنية من عدة أدوار ، وبيوت منفردة وربما بحدائق حولها أو في مقدمتها. قد يتبادر إلى الذهن ايضا أن فيها أكثر من ملعب للأطفال وساحات للمسابقات الرياضية وحدائق عامة للتنزه والتمتع بأوقات فراغ خارج البيت بعيدا عن صخب المدينة وحركة السيارات وأدخنتها. وقد يتبادر إلى الذهن أيضا أن فيها أبنية مدارس حديثة ومستشفيات ومراكز طبية مجهزة بطواقم طبية متكاملة ومعدات حديثة ، و فيها بيوتا لكبار السن ومراكز لتأهيل الأطفال الذين حرموا من الأبوة او الأمومة لتربيتهم بحب بلادهم وخدمتها على أحسن وجه. وقد يتبادر إلى الذهن أيضا أنه خلال الليل تنار الشوارع والأزقة وشرفات المنازل.

لكن ويا للخيبة لم تحظى المدينة بمثل هذا الترف في الماضي ولم تحظى به في الوقت الحالي ، وكأن حكومات العهد المباد قد وقعت بالدم على ميثاق شرف مع حكومات العهد الجديد على عزل هذه المدينة عن التمدن ، و بتركها تغرق في مياه الصرف الصحي ولتختنق بروائحه الكريهة ولتدفن تحت أنقاض المباني وقمامة المنطقة الخضراء وغيرها من الأحياء " المتحضرة ". قد لا يتصور الكثيرون في العراق وخارجه أن يوجد شيئ مثل هذا في بلد النفط الغزير ، وقد يعتبرونه دعاية صهيونية قذرة ضد حكومات العراق سابقا ولاحقا ، وقد يعتبره البعض مبالغة مقصودة من كاتب المقال للإساءة للحكومة الحالية بالذات. أنني أدعوا الذين لا يصدقون ما أقول إلى التوجه إلى هناك والتحقق من صدقية وصفي لتلك المدينة البائسة.

إن الشارع الرئيس الذي يخترق مدينة المنسيين تلك قد كسي بالقار مرات عدة لكن ما أن تمر عدة أيام على تلك العملية المزيفة التي يتعاون فيها موظفون حكوميون فاسدون مع مقاولين لصوص جشعين يعود إلى طبيعته الترابية والطينية ليتحول إلى طريق موحل ، وهكذا وأسوء يتعاملون مع الأزقة الداخلية التي تتحول إلى قنوات مفتوحة لمياه الصرف الصحي. المدينة تعيش أغلب لياليها في ظلمة حالكة ، فقد تناسى سكانها خدمات الدولة بإمدادهم بالطاقة الكهربائية ، وبسبب ذلك يضطر الأهالي إلى الاستعانة بالفوانيس النفطية لتدبير شئون حياتهم من بيع وشراء وتنقل ، فيما يضطر البعض الموسرين نسبيا إلى استخدام خدمة المحولات الكهربائية الخاصة التي يتمنى أصحابها لو أن خدمة الكهرباء الوطنية قد توقفت إلى الأبد ليتنعموا بحرية فرض أجور خدماتهم على المستهلكين الذين يدفعونها وهم صاغرون. إن انعدام التيار الكهربائي الحكومي أودى بالكثير من ذوي المهن والحرفيين إلى البطالة بعد أن أجبروا على ترك العمل الحلال لكسب قوتهم ، و تقدر نسبة البطالة في المدينة السيئة الحظ إلى أكثر من 70% من قوة العمل المتاحة فيها. إن هذه النسبة العالية من العاطلين عن العمل تعكس بوضوح حقيقة ما يعانون من جوع وحرمان ، وبلا شك أن بعضا من ذلك الجيش العاطل عن العمل مضطر لمزاولة الجريمة لإنقاذ نفسه وأطفاله من الموت جوعا.

إن المتوجه صوب تلك المدينة مضطر للمرور عبر طريق طويل متعرج وغير مستوي لكثرة الحفر والأنقاض والقمامة على جانبيه وأحيانا في وسطه. إن مدينة " الشعلة " تعتبر جزء من العاصمة التي تفوق ميزانيتها ميزانية المملكة المغربية كلها. إن أمين عاصمتنا الموقر أقسم أمام عدسات مصوري القنوات الفضائية نهاية العام الماضي بأنه سيقضي على الفساد الإداري وسيبني أنفاقا تحت الأرض لتسهيل تنقل مواطني العاصمة ، وأنه سيستخدم الطاقة الشمسية لتزويد العاصمة بالكهرباء على مدار الساعة. نعم قالها أمين العاصمة وسمعه كثيرون وصدقه قلة واستخف به الكثيرون ، لأنهم يعرفون من أي حليب فاسد رضع ذلك الأمين ، وإلا كيف يتعاون مع ثلة من المقاولين اللصوص لينجزوا على والورق مشاريعه العملاقة التي تكاد تدفن مدينة الشعلة بقمامة العاصمة.

يحيط المدينة البائسة تلالا من القمامة والأنقاض يرميها بانتظام بمهنية فريدة يوميا مقاولوا أمانة العاصمة وغيرهم ، تلك الأنقاض التي تحمل الأوبئة والموت والروائح الكريهة إلى سكان لا حول ولا قوة لهم. علما بأن مقاولون نجباء آخرون يعملون مع حضرة أمين العاصمة يقومون على نقل بعض هذه القمامة من مكان إلى آخر كتعبير عن نشاط دائم لأمانة العاصمة ابتكر لشفط المزيد من أموال الشعب بموجب عقود رسمية موثقة يستطيع المواطن العادي أن يطلع عليها بكل شفافية وتعفف.

في حوار نادر كنت شاهدا على ما دار فيه بين مواطن من سكنة الشعلة مع عسكري كان يجلس في مدرعته وبقربه دبابة كان جنودها في حالة تأهب لإطلاق النار، كان العسكري وجنوده يرابطون قريبا من أحد مداخل المدينة ، وقد بدا وكأنهم يقومون بدور المراقبة وربما المداهمة. كان المواطن الصديق خريج الجامعة المستنصرية ويحمل شهادة في الهندسة المعمارية منذ عام 1992 ولم يحصل على عمل في اختصاصه لحد اللحظة ، كان يجيد اللغة الانكليزية بطلاقة.

توجه المهندس لذلك العسكري الذي ترجل من عربته تواضعا بعد أن وثق بالمتحدث قائلا :

ماذا تريدون منا؟ فكما ترى إننا فقراء معدمون ، وهذه الكهوف التي تراها هي مكان سكننا تعافها حتى العقارب كمكان تأوي له ، إذا أردتم مساعدة الشعب العراقي كما تدعون أبدئوا من هنا وسترون من سيحبكم أكثر نحن أم الإسرائيليون ، إنكم بثمن هذه الدبابة التي صنعت للتدمير وليس لشيء آخر يمكنكم بناء مائة بيت صحي لمائة عائلة معدمة هنا ، وعندما مرت طائرة عسكرية من طراز ف 16 مخترقة لجدار الصوت فوق رؤوسنا نظر إليها قائلا :

أنظر يا أخي أنكم بثمن تلك الطائرة التي يزيد ثمنها عن 20 مليون دولار والتي لا فائدة منها ، تستطيعون بناء مدينة حديثة هنا تعيد الحياة لسكان هذه القبور التي لم تدرج في السجل المدني لسكان بغداد ، فلا هي بالقبور ولا هي بمساكن للآدميين. لقد بنيت هذه البيوت بأيادي سكانها في هذه الأرض الفضاء بعد أن يأسوا من مساعدة الحكومات المتعاقبة في تخصيص قطع أراضي مع قروض ميسرة لبناء مساكن صحية متواضعة. إن الحكومة تنظر إلى سكان هذه الأحياء باعتبارهم متجاوزون على أراض حكومية ، وهم مهددون بالطرد منها في أي وقت. هل تعلم أيها الضابط أنه ليس في هذا الحي الذي تحاصرونه كهرباء أو ماء صالحا للشرب أو مجاري للصرف الصحي ، وأن أغلب سكانه نباتيون بالإكراه ، فهم يعتمدون على الخبز وحده في طعامهم ولا ذكر للحم في وجباتهم الغذائية ، وإن قسما كبيرا منهم أرامل الجنود الذين قتلوا في حروب العراق مع جيرانه ، وفيهم أيتام ومقعدون يقبعون في غرف مظلمة منذ انتهاء تلك الحروب ، فهم عاجزون عن الحركة تماما ولا أحد من المسئولين السابقين أو الحاليين يسأل عن أحوالهم.

خلال ذلك أقترب منا رجل في الخمسينيات من عمره زاحفا ، كان الرجل متلهفا للتحدث الينا ، فعلامات الغبطة قد ميزت نظرته نحونا وهو يتشبث بتراب الأرض ليدركنا قبل أن نغادر المكان ، وقبل أن يصل إلى مكان وقوفنا بعدة أمتار توجه إلى العسكري الأمريكي قائلا : أرجوك سيد ، اسمح لي بدقيقة واحدة من فضلك ، كان الرجل قد فقد أطرافه السفلى وأحدى كفيه قائلا : أيها السيد ، لا أريد أن أأخذ من وقتك الكثير فلابد السيد ماهر قد حدثك عنا وعن معاناتنا نحن المنسيين ، إنني واحد من أكثر من مائة معاق من الجنود السابقين الذين شاركوا في الحرب العراقية/ الايرانية إبان النظام السابق نسكن هنا في هذا الحي البائس ، ليتك تنقل مشكلتنا إلى السلطات المسئولة لتتذكرنا فنحن دافعنا عن دولتنا دون تهاون ، وبدلا من أن يكافئونا على تضحياتنا ألقوا بنا في هذه القمامة. نرجوك أن تبذل ما في وسعك للتدخل لمنحنا الحقوق التي كفلتها لنا القوانين ليس أكثر ، إن صوتكم مسموع من قبل حكومتنا ، فلكم فيها مستشارون كثر، فراتبنا التقاعدي شحيح وفي ظل التضخم المتصاعد لا يساوي شيئا. نطالبهم بسكن يحفظ لنا إنسانيتنا وكرامتنا ، ومعدات خاصة بالمعاقين فليس من المعقول أن يتحرك حماة الوطن " كديدان الأرض " هكذا كما نفعل نحن في دولة هي الأغنى بين دول العالم النفطية.

بعد أن استمع الضابط إلى ما قاله العسكري العراقي المعاق ، توجه إلى المهندس المعماري قائلا : ليتك تدون مطاليبكم التي تحدثتم عنها في رسالة تحمل تواقيع سكان هذا الحي وأعاهدكم بتقديمها إلى قيادتنا العسكرية لتنقلها بدورها إلى الحكومة العراقية ، وهذا كل ما أستطيع فعله. ابتسم العسكري المعاق بتفاؤل وتقدم بشكره للضابط الأمريكي منهيا كلامه قائلا : سامحنا أيها الضابط ، فليس من عادتنا عدم دعوة الغرباء الضيوف إلى بيوتنا ، لكن أحوالنا التي تراها لا تسمح بذلك ، أرجوك سامحنا رافقتك السلامة.

وأثناء ما كان الضابط يتحرك صوب مدرعته توجه صديقي المهندس نحوه قائلا : ثق أيها الصديق أننا لا نضمر لكم السوء ولا نكرهكم ، إننا شعب صادق النيات ، لم يعلمنا أهلنا كراهية أحد ، لكننا لا نتساهل مع من يسعى لإذلالنا وأعتقد أنكم كذلك أيه الصديق ، بعدها غادر الضابط الأمريكي المكان على ان يأتي غدا لاستلام مطاليب سكان الحي ليقدمها إلى حكومة المنطقة الخضراء.

 


البصرة 24 / 5 / 2009


 

free web counter