| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

                                                           الثلاثاء 19/2/ 2013

 

الصين الشعبية ... والانتقال الى الرأسمالية
(5) الأخير

علي ألأسدي

الأجزاء الأربعة السابقة من هذا المقال" الصين الشعبية والانتقال الى الرأسمالية " ربما أخفقت في الاجابة على التساؤل : هل انتقلت الصين الى الرأسمالية فعلا أم لا ، واذا كان الجواب بالايجاب ، فرب قارئ يتساءل غاضبا : لم اذن كل هذه الثرثرة عن اشتراكية لم تعد موجودة لا في الصين ولا في أي بلد آخر ، وأليس من الأفضل التحدث عن الرأسمالية الصاعدة التي تتحدث عن نجاحاتها الأرقام لا الأحكام الصادرة من كاتب على بعد آلاف الأميال عن الصين يقبع في محراب لا كهرباء فيه ولا ماء صالحا للشرب يجتر عبارات وأرقاما أكل الدهرعليها وشرب..؟

لا اعتقد ان الاجابة بلا أو نعم تفي بالغرض ، بل أجد من الضروري أن أميط اللثام عما يجري في الصين من نشاطات اقتصادية رأسمالية للوقوف عن قرب من ممارساتها البعيدة عن التصور ، وللقارئ العزيز الحكم على طبيعة النظام الذي تنحدر نحوه الصين الشعبية منذ عام 1978 وفيما اذا سينقلها بالفعل للاشتراكية حسب زعمهم.

من خلال قراءاتي للتجربة الاقتصادية الراهنة في الصين اكتشفت أن النمط الرأسمالي الذي يجري تنفيذه اليوم فيها هو النسخة البدائية لرأسمالية القرن الثامن عشر. ولا أجد التعبير المناسب لأصف الاساليب اللاانسانية في استغلال العمال من قبل أرباب وادارات العمل في دولة يقودها حزب شيوعي من أقدم الاحزاب الشيوعية في العالم. هذا الحزب الذي ما يزال يسمى بالحزب الشيوعي يلوذ بصمت القبور عن أبشع استغلال لكادحي بلاده من قبل الشركات الرأسمالية الصينية والاجنبية لا يماثله غير الكدح العبودي الذي مارسته الرأسمالية الغربية بحق الأفارقة السود الذين كانوا يسرقون من عائلاتهم في أفريقيا ويشحنون مكبلين بالسلاسل الى العالم الحر ليخدموا حتى الموت سادتهم الرأسماليين.

ومثال ذلك ما تناقلته وسائل الاعلام الغربية عن الممارسات الهمجية ضد العمال الفقراء الصينيين العاملين في أكبر شركة للمنتجات الألكترونية في العالم ، ولها زبائن في انحاء مختلفة من الكرة الأرضية ولها ثلاثة عشر مصنعا. تنتج الشركة وتسمى Technology Foxconn حوالي90 ألف جهاز الكتروني سنويا لشركات Apple ,Dell ,Nokia, Hewlet-Pacard, Sony, ، وغيرها بالعشرات. في عام 2010 حدثت فيها اكبر محاولة انتحار في العصر الحديث ، حيث قام عشرون عاملا بمحاولة انهاء حياتهم احتجاجا على ظروف العمل التي يجبرون عليها ، وقد تم انقاذ ستة فقط بينما فقد اربعة عشر عاملا حياتهم. ومرت تلك الحادثة دون رمشة عين من رئيس الدولة وقيادة الحزب الشيوعي في حين تحركت الجماهير التونسية في ثورة غضب اطاحت برؤوس النظام التونسي كرد فعل على انتحار عامل واحد.

يجبر العمال على العمل لمدة اثنا عشر ساعة في اليوم أو أكثر ، ولهم فقط عشر دقائق للراحة ، واذا ما رغب أحد العمال لزيارة المرافق العامة فيجب أن يكلف أحدا للقيام بواجباته خلال ذلك. ويجبرون على العمل الاضافي بنصف الأجر ، ولا تدفع لهم أجورهم أحيانا في الموعد المحدد ، حيث يستلمون بدلها قسيمة تعتبر الاجر غير المدفوع دينا على الشركة. ويحدث أن لا تدفع الشركة حصص العمال التقاعدية.

ومهما حاول العمال الدفاع عن حقوقهم بمقاضاة الشركة لمخالفتها القوانين النافذة تفشل محاولاتهم ، لأن الشركة من القوة والنفوذ بحيث لا احد له سلطة مساءلتها. وان 87% من المصانع تحرم العمال من حقوقهم في التمتع بالعطل الاسبوعية والمناسبات الوطنية المدفوعة الأجر. تعتبر هذه العطل أمرا روتينيا في القطاع العام وتنص عليه القوانين النافذة ، لكن الشركة لا تعترف لهم بذلك وتجبر العمال على اعتباره يوم عمل.

ممارسات كهذه لم نعد نسمع عنها حتى في البلدان المتخلفة اقتصاديا ، لكنها شائعة في المشاريع الاقتصادية الخاصة والاجنبية العاملة في الصين. وهناك جانبا آخر من الممارسات ما تزال الكتابة عنها شحيحة ومحدودة الانتشار، لكن تبعاتها على الاقتصاد والمجتمع والبيئة كارثية بكل المقاييس. ففي تقرير صادر عن ادارة البيئة سرب الى الصحافة الأجنبية ، يعكس ما تعجز المؤسسات المحاسبية الصينية والدولية من الوصول الى تكاليفه الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية.(12)

تطرق التقرير الى النتائج التي قادت اليها النشاطات الاقتصادية الساعية للربح السريع ضمن سياسة اقتصاد السوق الراهنة ، محذرا بانه اذا استمرت الصين في هذا الطريق التقليدي في التصنيع فليس هناك اي حظ في أن يكون لها تطورا اقتصاديا مستقرا ، لأن الثروة الطبيعية والبيئية قد وصلت مداها الآن. فنهر اليانتسي تحول الى مكب للمياه الثقيلة ، ومياهه مسممة بسبب النفايات الصناعية غير المعالجة. كما ان هناك نقصا في الموارد الطبيعية من كل الأصناف بما فيها الطاقة والغابات والمياه والأراضي ، فهذه أصبحت ملوثة بالنفايات المشبعة بالسموم التي تسببت في فقدان الكثير من الكائنات البرية. وان 75% من مياه الانهار التي تجري داخل المناطق الحضرية غير صالحة للشرب أو الصيد.

وان هناك60 مليونا من سكان الصين ليس لهم مياها صالحة للشرب ، وان ثلاثة اضعاف هذا العدد يشربون مياها ملوثة ، وان ربع الأراضي الصينية أجبرت عشرات الالاف من سكانها على هجرتها بحثا عن أراضي صالحة للحياة. وان سبعة من كل عشرة مدن صينية تعتبر الاكثر تلوثا في الصين ، وان 300 مدينة صينية فشلت في الوصول الى المواصفات التي حددتها منظمة الصحة العالمية ، ويعني ذلك انها غير صالحة للسكن البشري الحضري.

وهناك ماهو أكثر مأساوية في الحياة اليومية للشعب الصيني التي قادت اليها سياسة اقتصاد السوق ، فمن مجموع 800 مليون من سكان الريف الذين كانوا يعتمدون على الخدمات الصحية العامة في ظل الاشتراكية حرموا منها بعد التحول نحو اقتصاد السوق. واذا اخذنا مجموع سكان الصين فان 4%منهم فقط يتمتع بالرعاية الطبية العامة مقارنة بتسعين في المائة قبل التحول الى اقتصاد السوق.

ووفقا لما ذكرته منظمة الصحة العالمية ، (13) فان الصين اليوم تقع في نهاية قائمة الدول النامية التي تتيح لمواطنيها الرعاية الصحية العامة. وأكثر الناس تضررا من واقع الخدمات الصحية العامة في الصين هم النساء الحوامل ومرضى الأيدز الذي يشكل الوباء الأكثر خطورة لعدم تمكن ضحاياه من تغطية تكاليف علاجه. ومما يسبب انتشار مرض الايدز تجارة نقل الدم التي يضطر لها الفقراء من سكان الريف. و بينما كانت الدولة الاشتراكية توفر الرعاية الصحية العامة بدء من رياض الاطفال الى المدارس والكوميون والمصنع والمكتب عملت الليبرالية الاقتصادية لأوكسياو بنغ على انهاء كل ذلك.

وبحسب بعض التوقعات التي أجراها اقتصاديون صينيون وأجانب ان الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي عام 2020 في حالة استمرار النمو الاقتصادي بمعدل 10% والصادرات بنسبة 15% سنويا.(14) لكن استمرار نمو الصادرات بهذه النسبة يتم على حساب الطبقة العاملة التي يتم استغلالها مقابل أجور حافة خط الفقر. لقد تمكنت الدولة بنتيجة ذلك الاستغلال من زيادة معدل التراكم الرأسمالي الذي بفضله زيدت الاستثمارات السنوية بنسبة 50% الناتج القومي الاجمالي.

البروفيسور Minqi Li ، الاستاذ المشارك حاليا في قسم الاقتصاد السياسي بجامعة Utah الأمريكية يعتقد ان نسبة الاستثمار 50% الناتج القومي الاجمالي تخفض نسبة العائد من رؤوس الأموال مما يهدد استقرار النظام المالي الصيني ، حيث أكثر الاستثمارات ممولة عن طريق القروض المصرفية ومصادر أخرى. وان30% الناتج القومي الاجمالي هي نسبة معتدلة وتضمن الاستقرار الاقتصادي. أمام هذا الواقع يفترض أن تخفض الاستثمارات الى حدود 30% الناتج القومي. لكن خفض الاستثمار بنسبة 20% ( من 50% الى 30% ) يتطلب زيادة الاستهلاك الداخلي بنسبة 20% ، بعبارة أخرى زيادة دخل المواطنين بنفس النسبة أي20%. ولأن أكثرية الشعب الصيني تعتمد على الأجور كمصدر رئيسي للدخل ، ولأجل زيادة استهلاكها بنسبة 20% يتطلب اقتطاع ما نسبته بين 15 الى 20% من دخل الرأسماليين واعادة توزيعه على العمال الأجراء. لكن اجراء كهذا سيواجه بلاشك بمقاومة متزايدة من الطبقة الرأسمالية. (15)

وتدور مناقشات واسعة داخل المجتمع الصيني حول عدم المساواة الواضحة في توزيع ثمار النمو الاقتصادي. فهناك اعدادا متزايدة من المثقفين والناشطين الاجتماعيين يضغطون من أجل اعادة التفكير ببرنامج "اشتراكية اقتصاد السوق ". وبضرورة انعاش المشاريع الاقتصادية القائمة على الملكية العامة لوسائل الانتاج ، وأن يعاد توزيع الدخل والثروة من الأثرياء الى الفقراء لضمان الاستقرار الاجتماعي. ويقود هذا التيار من اطلق عليهم " اليسار الجديد " الذين عرفوا بميولهم للنظام الاشتراكي في عهد الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ.

وقد تصاعدت شعبية اليسار الجديد داخل المجتمع الصيني وخاصة في أوساط الطبقة الوسطى والأجيال الجديدة من الطبقة العاملة ، ومما ساعد على انتشار شعبيتهم هو نقدهم لظاهرة عدم المساواة داخل المجتمع الصيني. ويعرف عن سكرتير الحزب الشيوعي لمدينة جونغ كينغ Bo Xi Lai بانه قائد الجناح اليساري في الحزب ، لكن يمين الحزب يحاول اضعافه والتقليل من نفوذه بين الجمهور الصيني. فهناك اشاعات يمكن ان تشكل جزء من محاولات اقصائه ، لكن الجناح اليساري يزداد قوة وهو دليل على وجود انقسام داخل قيادة الحزب الشيوعي.ومما يشجع على تزايد نفوذ الجناح اليساري هو التاريخ الثري للاشتراكية ، وان اي تغييرات معتدلة باتجاه اليسار يمكن ان تقود لمزيد من التغييرات باتجاه الاشتراكية الذي قد يزعزع الاتجاه اليميني في الحزب. لكن عملية التغيير هذه تعتمد على فعل الصراع الطبقي و الدور المؤثر للطبقة العاملة فيه.

التجارب التاريخية في البرازيل وبولندا وكوريا الجنوبية أثبتت انه اذا شكل العمال من أصول غير فلاحية في بلد ما أكثر من70% من مجمل قوة العمل فيه فانهم سيتحولون الى قوة سياسية واجتماعية تضغط من أجل زيادة الأجور والتأمينات الاجتماعية والديمقراطية السياسية. القوى العاملة في الصين تشكل حوالي 60% قوة العمل الكلية فيها حاليا ، ويقدر بان اعدادها تتزايد باستمرار بحوالي 1% سنويا ، وبهذا المعدل فانها ستتجاوز نسبة 70% في حدود عام2020. واذا أخفق الرأسماليون الصينيون في احتواء والتجاوب مع مطالب العمال الصينيين فان أزمة اقتصادية وسياسية ستواجه الصين الشعبية في السنين القريبة القادمة.(16)

لقد علمنا ماركس بان البرجوازية تحفر قبرها بيديها ، لكنها لا تفعل ذلك طواعية بل بقوة وضغط الطبقة العاملة التي ستقيم صرح الاشتراكية على قبرها. لكن أن تحفر الطبقة العاملة قبر الحزب الشيوعي الحاكم في الصين الذي أصبح جزء من الطبقة الرأسمالية الجديدة ويتقاسم معها فائض القيمة المتراكم فأمر لم يطرأ ببال ماركس وأنجلس في تلك الحقبة من التاريخ. وليس مستبعدا أن تفكر البروليتاريا الصينية بذلك اليوم وهي ترى قادة الحزب يتحولون الى بليونيرات ومليونيرات على حساب كدحها. وما ستحتاجه البروليتاريا الصينية بالفعل اليوم هو اقتفاء خطوات ثورة الكومونيين في باريس عام 1871 وتحاشي اخطاءها.
 

لمزيد من الاطلاع يراجع المصادر الاتية :


1- Stuart Jeffries, " Why Marxism Rise Again ", The Gurdian4/7/2012
2- Bob Treasure ," China Capitalist 0r Socialist ", The Gurdian , Australia ,19/2/2012
3- Stephen Gowans ," Socialism Agenda", Marxism-Laninism, Time Today, 8/11/2011
4- Robert Griffiths, " China forward or Into The Dith of Capitalism" , Morning Star, 21/9/2011
5- Stephen Gowans. مصدر سابق
6- Martin Hart- Landsberg and Paul Burkett, " China and Socialism Market Reforms and Class Struggle" .
7- The New York Times, October 2012
8- Clifford Coonan, The Independent, 31/1/2013
9- Bob Treasure مصدر سابق
10- Andrew Szamoszegi, " US – China Economic and Security" . Revew Commission, 10/ 2012
11- Andrew Szamoszegiمصدر سابق
12- The Financial Times ,4/5/2004
13- The New York Times 24/5/2004
14- Martin Hart-Landsbergمصدر سابق
15- Minqi Li ," A Dying Model :Chinese Capitalism" , The Diplomat , 6/11/2012
16- Minqi Liالمصدر السابق
 

 

 

free web counter