| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

                                                                                 الثلاثاء 17/5/ 2011

 

اليسار في الحركة الشيوعية العالمية ....
الجزء الرابع ..

علي ألأسدي - البصرة  

( الشيوعية المجالسية )
في نهاية الجزء السايق من هذا البحث جرى الحديث عن أهم تيارين في الحركة الشيوعية اليسارية ، ممن عاصرا ثورة أكتوبر وباركا اقامة دولتها السوفييتية قبل أن ينقلبا عليها وينحازان ضدها ، وهما : 1- تيار " الشيوعية المجالسية " وهو المصطلح الذي استخدمه اليسار الشيوعي في ألمانيا وهولندا. و2- " اليسار الشيوعي" وهو المصطلح الذي تعارف على استخدامه اليسار الشيوعي الايطالي والانكليزي.

ارتبط اسم ونشاط وتاريخ " الشيوعية المجالسية " بعدد من الماركسيين والشيوعيين والشيوعيين السابقين الذين كان بينهم عددا من الأساتذة الجامعيين وشعراء وفلاسفة ورجال علم وأدباء وكتاب سياسيين مرموقين. ظهرت وطورت "الشيوعية المجالسية " اعتمادا على " السوفييتات " التي شكلها العمال الروس في مدينة بيترسبيرغ خلال الاضراب الذي أعلنوه عشية ثورتهم في عام 1905. وجد الشيوعيون اليساريون في تلك المجالس العمالية ما اعتبروه ممارسة نموذجية للطبقة العاملة كأداة للنضال ضد الرأسمالية ، حيث اعتبرت شكلا مباشرا للديمقراطية ، يقوم العمال عن طريقها بالادارة الذاتية للعملية الانتاجية في القطاعات الاقتصادية المختلفة ، وكافة الواجبات الادارية في الدولة بما فيها الحكومة والجيش والأمن . فالسوفييتات كانت المادة الأولية التي بنت عليها مجموعة الشيوعيين اليساريين نظريتهم عن المجالس العمالية ، التي أصبح لها قادة بارزون كان لهم منظورهم الخاص حول النظام الاشتراكي الذي تكون الطبقة العاملة وسيلته وسلطته بعد انهيار النظام الرأسمالي الذي كان وشيكا بحسب توقعاتهم.

لم تظهر السوفييتات كحركة سياسية وتنظيمية للعمال مرة واحدة ، بل خلال عدة عقود من السنين ، وتعود فكرتها الى عام 1890 ، قبل أن يعتمدها العمال الروس في اضراباتهم قبل وإبان ثورة 1905 وبعدها في ثورتي شباط وأكتوبر عام 1917. وكما سنرى لاحقا ، أن حركة المجالس العمالية غدت سببا لظهور خلافات عميقة بين الشيوعية اليسارية التي مثلها اليسار في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والسلطة البولشفية خلال وبعد العام 1920 ، عندما أحكم البولشفيك من سيطرتهم على زمام السلطة. فالحرب العالمية الأولى وحرب التدخل التي قادتها الدول الامبريالية بقيادة بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وعدة دول رأسمالية أخرى ، بين عام 1918- 1922 ، دفعت الاقتصاد الروسي الى شفا الانهيار ، مما تطلب من السلطة البولشفية الناشئة استخدام أقصى آليات الحزم في ادارة شئون البلاد الاقتصادية والسياسية والأمنية ، وأصبح من الضروري تعزيز سلطة الحزب البولشفي أينما كان ذلك ضروريا. لكن تعزيز دور الحزب البولشفي في السلطة الاشتراكية في روسيا لم يحظى بتأييد اليسار في الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية في كل من ألمانيا وهولندا وبلجيكا وايطاليا وبلغاريا وبريطانيا بعد أن أيدوها في بادئ أيامها. حيث اعتبروا دور الحزب البولشفي في قيادة النظام الجديد اتجاها ديكتاتوريا ، دون أن يحاولوا فهم موقف السلطة السوفييتية الجديدة. لقد شنوا منذئذ حربا اعلامية فكرية وسياسية واسعة للحط من التطبيقات الاشتراكية التي باشرها البلاشفة بعد ثورة أكتوبرعام 1917. ومن متابعة نشاط الشيوعيين اليساريين حينها ، نجد أقلية منهم فقط من تراجع عن موقفه من البولشفيك والدولة السوفييتية ، غير أن أكثريتهم استمرت في معارضتها وانتقادها ، وعدم اعترافها بالنظام السوفييتي كنظام اشتراكي ، بل نظاما برجوازيا ، وفيهم من قضى جل حياته في تضاد دائم مع الحكومة والحزب الشيوعي السوفييتي فيما بعد .

قادة الشيوعية اليسارية ، ممن عمل وقاد نشاطات الأجنحة اليسارية في أحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوربية ، شكلوا تحديا سياسيا فكريا لسلطة البلاشفة في السنين الأولى منذ قيامها بالاستيلاء على الحكم في روسيا. فلاديمير لينين الذي عايش تلك الحقبة من الثورة المضادة له وللبولشفية ، قاد حملة فكرية واسعة ضد آراء منتقديها من تيار اليمين أو اليسار، ولم يترك جانبا فكريا أو نشاطا تنظيميا إلا وتناوله بالنقد والتحليل ، ولم ينس حتى أسماء مخالفيه وجنسياتهم وأطروحات كل واحد منهم ، وتاريخ التنظيمات التي عملوا فيها. والمتابع لنشاط لينين في هذا المجال يصاب بالدهشة للطاقات الفكرية ، وثراء التجربة النضالية العملية التي امتلكها ، وكان يقوم بكل ذلك الجهد وهو المسئول الأول في الدولة والحزب البولشفي. في كتابه الموسوم " مرض الطفولة اليساري في الشيوعية " ، تعرض للكثير من الآراء التي صدرت عن اليسار الشيوعي بتياريه خلال السنتين والنصف من عمر النظام الاشتراكي ، بين فيها " أن البلاشفة لم يكن باستطاعتهم الاحتفاظ بالسلطة شهرين ونصف الشهر، لا سنتين ونصف السنة ، لو لم يسد في الحزب البولشفي نظام طاعة صارم وحديدي حقا ، ولو لم يحظى بأتم التأييد والوفاء من الطبقة العاملة بمجملها ، وبكل ما في تلك الطبقة من عنصر مفكر وشريف ومتفان ومتنفذ وقادرعلى قيادة الفئات الأقل وعيا وثقافة ". وكان يؤكد في كل مناسبة ، " أن ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن حرب ضروس تخوضها الطبقة الجديدة ضد عدو يفوقها بأسا ، ضد البرجوازية التي تضاعفت مقاومتها عشرة أضعاف لسبب اسقاطها ( وفي بلد واحد فقط ) ." (4)

وكرد فعل للآراء التي أفصح عنها لينين في كتابه ذاك ، ودون الانتظار طويلا ، رد قادة التيار من منظري اليسار الشيوعي الهولندي / الألماني على انتقادات لينين لهم ، فكتب أحد قادتهم وهو الهولندي هرمن غورتر، رسالة إلى لينين ردا على أرائه الواردة في كتابه المذكور ، وكانت بعنوان :- " رسالة مفتوحة إلى الرفيق لينين " تضمنت أرائه التي سبق له أن عبرعنها في مقالة نشرها هو في صيف عام 1920 بعنوان " The World Revolution ". وجاء فيها:

" الظروف في أوربا الغربية وبصورة خاصة في ألمانيا وانكلترا ، تختلف كليا ولا يمكن مقارنتها بالثورة الروسية. فالطبقة العاملة الروسية توحدت مع الفلاحين للاطاحة بالطبقة الحاكمة الضعيفة ، أما في أوربا الغربية فليس للطبقة العاملة حلفاء ، وتواجه بنفس الوقت سلطة حاكمة قوية. ولهذا السبب فان تكتيك النضال الطبقي في أوربا الغربية ينبغي أن يستهدف تلاحم واستقلالية الطبقة العاملة." وفي بيان تأسيس الأممية الرابعة عام 1921، عاد غورتر وعبر من جديد عن أراءه التي خص بها الثورة البولشفية والدولة الاشتراكية ، فكتب:- " أن الثورة الروسية كانت في الحقيقة ثورتين ، واحدة في المدن قادتها الطبقة العاملة ضد الرأسمالية ، والثانية في الريف ، قاد الفلاحون فيها ثورة رأسمالية ضد الاقطاع ، وهذه الازدواجية والتناقض حلتا لصالح الفلاحين والرأسماليين ، تزامنا مع اعلان الحكومة الاشتراكية عام 1921عن سياسة اقتصادية جديدة ( النيب). وبذلك توقفت الحكومة السوفييتية عن خدمة مصالح الطبقة العاملة ، وتحولت إلى دولة رأسمالية ، ولأن الأممية الثالثة التي ربطت مصيرها بالسلطة البولشفية ، أصبحت هي أيضا مؤسسة رأسمالية ، ولذلك تطرح الحاجة لتشكيل الأممية الرابعة ".(5)

هرمن غورتر في موقفه المنوه عنه في بيان تأسيس الأممية الرابعة ، بدا وكأنه يطالب لينين باعادة النظر بما يعتبره ثورة اشتراكية تقودها الطبقة العاملة في روسيا ، حيث ذكر في رسالته تلك إلى لينين " بالنسبة لي ، وكما قلت مرارا ، بأنك أسأت فهم الوضع في أوربا الغربية " . وكما ظهر فيما بعد فان عبارة غورتر الأخيرة هذه لم تلق قبولا من قبل رفاقه في مجموعة المجالسيين ، حيث اعتبروها ساذجة ولا تستحق الذكر وبالتالي جرى اهمالها.(6) لكن هذا لم يعن أن رفاقه من الشيوعيين اليساريين لم يوافقوه على بقية أرائه التي عبر عنها في رسالته إلى لينين. فأوتو رول أحد القادة الكبار في الشيوعية اليسارية ، قد قام بزيارة الى روسيا بعد ثورة أكتوبرالبولشفية بفترة قصيرة ، وظهر من خلال كتاباته التي نشرها بعد عودته من روسيا ، أنه كان يتوقع أن يرى أثناء زيارته إلى بلد الاشتراكية مظاهر النظام الاشتراكي الجديد وقد بدأت بالظهور، وأن تحولات نوعية كنتيجة لها قد حدثت في الحياة اليومية للجماهير، ولعله توقع أيضا نظاما ديمقراطيا أكثر ديمقراطية من الديمقراطية البرجوازية السائدة في أوربا الغربية. لقد أصيب رول على ما بدا بالصدمة وخيبة الأمل ، عندما لم يجد ما يمكن أن يعتبره تحقيقا لحلمه الوردي عن الاشتراكية ، ولذلك ، وبعد عودته من زيارته إلى روسيا باشر نضالا آخر غير النضال الذي خاضه قبل انتصار البلاشفة ، نضالا ضد البلاشفة " واشتراكيتهم الفاشلة" بحسب كتاباته. فبدأ هجومه الحاد على السياسات الاقتصادية للسلطة البولشفية ، وضد المجالس السوفييتية التي كما قال عنها ، قد استبدلت بديكتاتورية الحزب ، وأنه لم يلاحظ أي اثرا لشيوعية حقيقية ، بل برجوازية سوفييتية." ربما كانت خيبة الأمل وراء كتابات أوتو رول الغاضبة ، لكن لأي واقعي التفكير وموضوعي لا يمكن أن يتوقع المعجزات من حكومة لم تمضي في الحكم غيرعامان ونصف العام ، وما زالت في حرب طاحنة مع النظام الامبريالي العالمي. الموقف الذي عبر عنه رول قد دلل على أن ماركسيته التي عرف بها لم تكن إلا ثقافة البرجوازي الصغير الذي يهتم بالعناوين والعبارات الجذابة ، بينما يجهل طبيعة الحقبة التاريخية ، ومرحلة التطور الاقتصادي والاجتماعي التي وجدت فيها الدولة الاشتراكية الجديدة ، والصعوبات التي تحيط بها في الداخل ، وتلك التي ما زالت تشكل خطرا داهما عليها من الخارج.

لم تثر آراء أوتو رول البالغة التطرف أي ردود فعل معارضة بين زملائه من الشيوعيين المجالسيين ، بل بالعكس فان مواقفهم التي عبروا عنها تعقيبا على آراء رفيقهم رول ، لم تكن فقط متطابقة ، وانما أشد تطرفا ومبالغة. فقد اجمعوا على رأي موحد واحد تقريبا ، بأن ما يجري في روسيا هو ديمقراطية برجوازية أو ثورة برجوازية صغار المزارعين – Peasant Bourgeois Revolution وأن السياسة الداخلية (الملكية الخاصة للمزارعين) والسياسة الخارجية ( العلاقات التجارية والدبلوماسية مع الرأسمالية العالمية) كلا السياستان تثبت أن هناك عملية نقل السلطة إلى الأقلية التي تقود مباشرة نحو " رأسمالية الدولة".(7) العبارات الثورية وحدها لا تكفي لاتخاذ القرار الصحيح في المكان والوقت الملائمين ، وحتى يتخذ القرار الملائم ينبغي فهم الظروف المحيطة من كل جوانبها. فاعتبار ما جرى في روسيا ثورة برجوازية لايشير إلى المام رول ورفاقه بالوضع الطبقي في روسيا قبل وبعد ثورة أكتوبر 1917 ، ولا بأهمية دور الحزب البولشفي والطبقة العاملة في السلطة السوفييتية. يقول يقول لينين ، " إن بامكاننا ( ويجب علينا) أن نشرع في بناء الاشتراكية ليس من مادة بشرية خيالية أو من مادة نوجدها خصيصا ، بل من تلك التي أورثتنا أياها الرأسمالية ، وهو ما يجعل ذلك عسيرا للغاية ، ولكن أي موقف آخر من هذه المهمة سيكون غير جدي إلى حد انه لا يستحق حتى الحديث عنه ".(8)

يتبع


اليسار في الحركة الشيوعية العالمية .... الجزء الثالث ..
اليسار في الحركة الشيوعية العالمية .... الجزء الثاني ..
اليسار في الحركة الشيوعية العالمية .... الجزء الأول ..



 


 

free web counter