| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

                                                           الاربعاء 17/10/ 2012

 

التقشف الاقتصادي... وأمريكا الأخرى
(الأخير)

علي ألأسدي  

مرشح الحزب الجمهوري لرئاسة القصر الأبيض الأمريكي ميت رومني يتعهد بخفض ميزانية المعونات الاجتماعية لفقراء الأمريكيين والعاطلين عن العمل كاجراء لخفض العجز في الميزانية وتقليص حجم المديونية ، بنفس الوقت الذي أعلن سعيه لتوفير 12 مليون فرصة عمل ومنح اعفاءات ضريبية لأرباب الأعمال. لا توجد ضرائب على الكلام والوعود كما يقال ، لكن أليس من الحكمة ايضا التحدث عن مصادر التمويل وآليات تنفيذ برنامج ضخم كهذا ، خاصة وأن الدين العام المعلن للولايات المتحدة قد بلغ حدوده الدستورية في عام 2011 عندما وافق الكونغرس على رفع سقف الدين الى 14،3 تريليونا من الدولارات. هذا الرقم لا يشمل ديون الحكومة الأمريكية للصناديق المالية التي تحتفظ بمئات التريلونات من الدولارات لبرنامج المنافع الاجتماعية لصالح الأجيال الصاعدة من الأمريكيين ، وباضافة الأموال تلك الى الدين المعلن فسيرتفع مبلغ الدين الكلي الأمريكي الى 211 تريليون دولار ، علما بأن الناتج القومي الاجمالي الأمريكي للعام المالي 2011 بلغ 15،9 تريليون دولار. ولأن حكومة أي رئيس أمريكي غير قادرة على تسديد هذا الدين مهما حققت من النجاح الاقتصادي خلال فترة وجودها ، فإن مبلغ الدين الذي لا تحسب عليه فوائد ينتقل من الرئيس المنتهية ولايته الى الرئيس الجديد وهكذا الى الذي بعده.

عدم الاعلان عن الرقم الحقيقي للدين العام أو التحدث عنه يتم لأسباب سياسية ونتيجة اتفاق بين الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي على ما يبدو بصرف النظر من يكون الرئيس الأمريكي ديمقراطيا أو جمهوريا. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فان الحديث عنه له مردوده الضار بمركز الدولار الأمريكي في سوق تبادل العملات وفي العلاقة مع العملات الرئيسية في العالم ، وعلى ميزاني المدفوعات والتجارة. والتفسير الذي يسوقه الاقتصاديان الأمريكييان لورنس كوتليكوف من جامعة بوسطن ، و جيري غرين من جامعة هارفارد في ورقة جامعية قدماها حول موضوع الدين العام عنوانها : "On The General Relativity of Fiscal Language "

وهو ان المبلغ المستثنى من الدين المعلن 14،3تريليون ، اي الفرق بين هذا ومبلغ 211 تريليون لا يعتبر في رأي السياسيين دينا ، بل " التزاما ماليا " ، لكن تبريرا كهذا كما يعتقد الأستاذان لا يعني بأي حال من الأحوال أن الحكومة غير ملزمة باعادة دفعهما لصندوق المنافع الاجتماعية. ويذكر الاستاذان أن هذا المبلغ كان موجودا في زمن الرئيس كلنتن ومستمرا لحد الآن مع أن حكومة كلينتن قد اعلنت حينها أنها حققت فائضا في حينها. (الحديث عن الفائض منشور في عدد من مستندات وزارة الخزانة الامريكية ). وبحسب الورقة المقدمة من الاستاذين ، انه لو اتفق الكونغرس والرئيس الأمريكي على ميزانية متوازنة تماما ، فان العجز السنوي رغم ذلك سيبلغ 4،15 تريليون دولار. واذا ما رغبت الحكومة التخلص من الدين العام في خطة طويلة المدى فستحتاج الى زيادة كل أصناف الضرائب الاتحادية على دخول الأفراد والشركات فورا ولمدة طويلة من الزمن بنسبة64%. (4)

وإذا فاز ميت رومني برئاسة القصر الأبيض بالفعل ، فسيمدد بالتأكيد قانون الاعفاء الضريبي لأصحاب البلايين الساري المفعول منذ عهد الرئيس بوش ، ولأجل تقليص العجز في الميزانية العامة سيقوم بالغاء أو تقليص برنامج المنافع الاجتماعية التي يكفلها برنامج الحرب على الجوع الذي ينتفع منه 46 مليون مواطن أمريكي. فقد تحدث عن نيته تلك مرات عديدة ، كان آخرها الأربعاء الماضي التاسع عشر من سبتمبر الحالي. فقد اتهم 47% من الأمريكيين بكونهم عالة ولا يدفعون الضرائب الاتحادية ، مما خلق موجة من الاستنكار حتى بين قادة حزبه الجمهوري. و كانت ملاحظاته تلك موضوعا لمقال رئيسي في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بعنوان " كل الجهات تدين عباراته " وهذه مقتطفات منه " Everything about Mr. Romney s characterization of this mythical slice of Lazy, shiftless Americans was wrong. A vast majority pay federal taxes. They also pay state and local taxes and sales taxes. The government s revenue problem does not start with the poor but with the richest people through the Bush tax cuts and other changes."

يقول فيه: " ان أكثرية الأمريكيين يدفعون الضرائب الاتحادية ، وضرائب الحكومة والضرائب المحلية ، وضرائب المبيعات.ان مشاكل موارد الدولة لم تأتِ من الفقراء ، بل من الأثرياء الذين منحهم بوش اعفاءات ضريبية وتغييرات أخرى." (5)

حجة المحافظين التي يسوقونها لتبرير الغائهم أو تقليصهم لميزانية برنامج المعونات الاجتماعية الذي يشمل قسيمة الطعام ومعونات السكن والمعيشة هي سوء استخدامه من قبل بعض الأمريكيين. هذه ليست المرة الأولى التي تساق الحجج للطعن وتهميش وتقليص برنامج المعونات من قبل الرؤساء الأمريكيين ، ففي الوقت الذي تبلغ التكلفة السنوية للبرنامج 75 بليون دولار ، لا تتجاوز نسبة الأموال التي يساء استخدامها كما يقدرها المسئولون عن البرنامج عن 1% سنويا من اجمالي المبلغ. وكجزء من الحملة الدعائية ضد البرنامج وضد الرئيس أوباما وصف المرشح اليميني السابق لرئاسة القصر الأبيض نيويت جنجريج الرئيس أوباما " برئيس طوابع الطعام " لأن الكثير من فقراء الأمريكيين تمكنوا في عهد أوباما من الحصول على منافع برنامج مكافحة الجوع عبر قسائم توزعها الدولة عليهم. وفي كلمة جون كار مدير برنامج مكافحة الجوع التي وجهها للمؤتمر الكاثوليكي الأمريكي بمناسبة مرور 50 عاما على انشاء البرنامج قال : (6)

برغم تصاعد نسبة البطالة التي لم تواجه أمريكا مثيلا لها منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، ليس هناك أي تقرير عن عودة واتساع الجوع بين الاطفال في الولايات المتحدة ، علما بأن عدد الفقراء قد زاد عن ذي قبل. ويعود الفضل في ذلك الى برنامج مكافحة الجوع الذي بدء به في عهد الرئيسين جون كنيدي وليندن جونسون بعده. ويذكر جون كار : عندما يقف أحد ويقول " هذا هو رئيس طوابع الطعام " ، لا الرئيس ولا أحدا غيره يقف ويرد بالقول : " بلدنا هو الأفضل لأن الأطفال فيه لا يجوعون ". وكان جون كار قد حشد حوالي 200 شخصية من حركة مكافحة الجوع للاحتفال بمرور 50 عاما على صدور كتاب مايكل هارينفتون " أمريكا الأخرى " وهو الكتاب الذي تحت تأثيره قام الرئيس كندي باطلاق " برنامج مكافحة الجوع."

وتشير ارقام عام 1973 أن معدل الفقر في الولايات المتحدة كان في حدود 11% ، لكن مع اتساع دائرة الركود الاقتصادي تغير الوضع حيث أصبح سوق العمل أصعب بالنسبة لكل فئات العمل ، وأصعب بكثير بالنسبة لأولئك القليلي التعليم. ذلك لأن المتاح من فرص العمل بأدنى الأجورأصبح أقل كثيرا من ذي قبل ، ولذلك فان فئات العمل هذه تظل في دائرة الفقر برغم حصولها على عمل ، لأن الأجر متدن جدا لا يفي بمتطلبات عيش عائلة مكونة من أربعة أطفال. وبسبب البطالة فقد ارتفعت نسبة الفقر الى 15،1% في عام 2011وما يزال الفقرعند هذه النسبة دون تغيير الى الأفضل. فايجاد عمل في الوقت الحالي صعبا جدا في ظل المنافسة التي يشكلها الهنود والصينيون والاندنوسيون. فالكثير من الشركات قد نقلت انتاجها الى دول حيث العمالة رخيصة جدا سعيا لتحقيق أفضل الأرباح.

وعلى سبيل المثال قامت شركة الأحذية الأمريكية الشهيرة Nike بنقل انتاجها الى اندونيسيا ، حيث تستخدم هناك فتيانا وفتيات في مقتبل العمر لقاء أدنى الأجور وفي ظل ظروف عمل سيئة جدا ، حيث لا يسمح فيها للعمال بالذهاب للمرافق العامة أكثر من مرتين في اليوم حرصا على عدم مضيعة الوقت. ويتم هذا بمعرفة السلطات الأندونيسية لتشجيع المستثمرين الأجانب على المجيئ والاستثمار في بلادهم. وبحسب منظمة العمل الدولية IAO تدفع الشركة المذكورة عن كل زوج للأحذية ينتج هناك 12سنتا أمريكيا فقط في حين يتراوح سعره في الولايات المتحدة بين 80- 100 دولارا. وهكذا مع مئات الشركات الأمريكية التي ترى من مصلحتها اقتفاء اثر شركة Nik. (7) وبناء على هذا الواقع فإن المزيد من الشركات الأمريكية ستنقل انتاجها اذا لم تكن قد نقلته فعلا الى دول كأندونيسيا والصين والهند وبنغلادشت والفلبين وغيرها من الدول ذات العمالة الرخيصة ، مما يجعل مهمة أية حكومة أمريكية لزيادة فرص العمل داخل أمريكا في غاية الصعوبة اذا لم يكن مستحيلا ، وان اي حديث عن ذلك هو تضليل ومضيعة للوقت.

واذا أرادت أية حكومة أمريكية حفز الشركات للبقاء والاستثمار داخل أمريكا لزيادة فرص العمل فستحتاج الى تغيير سياستها الاقتصادية والمالية ، بحيث يكون من مصلحة رؤوس الأموال ابقاء نشاطاتها الاقتصادية داخل الولايات المتحدة. لكن هذا غير ممكن في ظل ميزان القوى في الكونغرس حاليا ، حيث من الصعوبة تمرير قرار في غير صالح اصحاب البلايين الذين لهم الغالبية في مجلسي الكونغرس. وعليه فإن الحالة الاقتصادية في الولايات المتحدة لن تتعافى من أمراضها الكثيرة المتراكمة إلا بتغيير سياسي جذري تكون للآرادة الشعبية فيه تأثيرا حاسما ، وعند هذا فقط يمكن الخروج من المأزق الذي يواجه الاقتصاد والمجتمع الأمريكي.

النمو الاقتصادي ومن ثم التراكم الرأسمالي لا يمكن أن يعتمد على صناعة وتطوير وتصدير التكنولوجيا وحدها في حين يتراجع دور الانتاج البضاعي الاستهلاكي والاستثماري الداخلي في الاقتصاد الأمريكي ، وهو ما تشير اليه أرقام متوسط الأجور ونصيب الفرد من الدخل والثروة وبالتالي المستوى المعيشي للأمريكيين. في مقال كتبه دوغلاس ماكانتيل في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن آراء الاقتصادي لورنس كاتز الاستاذ في جامعة هارفارد عن الوضع الاقتصادي وعنوانه الأصل: U.S. Income: The Lost Decade Just Ended and the One About to Begin"

" العشرة سنوات الضائعة قد انتهت للتو ، والأخرى توشك أن تبدأ " (8) جاء فيه: " نحن نفكر بأن الولايات المتحدة هي المكان حيث كل جيل من أجيالها يعيش افضل من الجيل الذي قبله ، لكننا وجدنا أنفسنا بأن العائلة الأمريكية في وضع أسوء مما كانت عليه في عام 1990". ولا يتوقع أن يأتي برنامج الرئيس أوباما ذي الأربعمائة بليون دولار بكثير من التغيير على الوضع الحالي ، بحيث يزداد النشاط الاقتصادي وتخلق المزيد من فرص العمل. وهناك القليل من التأييد للتوقعات التي تقول بأن الفترة من 2010 الى 2020 ستكون افضل من السنوات العشرة الماضية.


لمزيد من الاطلاع يراجع :

1- Economic Collapse , Herms Press , July 2008

2- نفس المصدر السابق

3- نفس المصدر السابق

4- Merrill Goozner , The War on Poverty , The Fiscal Times.com

5- The New York Times , September 20/9/2012

6- Merrill Goozner , The War on Poverty , The Fiscal Times.com

7- هانس بيترمان مارتين و هارالد شومان ، "فخ العولمة " ترجمة د. عدنان عباس ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب –الكويت , ص 242

8- Douglas McIntyre , U.S Income: The Lost Decade Just Ended and One About to Begin , The New York Times , 14/9/2011
 

free web counter