| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. علي الأسدي

 

 

 

 

السبت 14/10/ 2006

 

كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 

الحرية الأقتصادية وفوضى السوق

 

د . علي الأسدي

يدور نقاش ساخن احيانآ، في الصحافة والمنتديات الفكرية والسياسية عن دور الدولة في التنمية ألأقتصادية، تتعالى فيها من حين لآخر نبرة متعالية على هذا الدور، و كأن البديل الجاهز الحاضر دومآ هو القطاع الخاص وعشيقته المعصومة عن الخطأ ’الحرية الأقتصادية’. وتورد الأمثلة العديدة والأدلة العتيدة، عن محاسن الحرية ألأقتصادية التي لا تحصى ولا تعد وأفضل دليل على ذلك، هذه الحرية التي يتمتع بها  القطاع الخاص في العراق اليوم . الحرية التي  تنفع ولاتضر، تغني ولاتفقر، ترفع من تشاء ولا تذل احدآ، تكافئ المتفوق دون تمييز طائفي او ديني اوقومي.

ان المقولةالأخيرة هي الوحيدة التي تصدق عن الحرية الأقتصادية، اما غيرها فليست كذلك. فهي تنفع البعض فعلآ، لكنها لا توزع المنافع وفق اي مبدأللعدالة اوالأخلاق. الحرية ألأقتصادية تضروتحطم حياة كثيرين، أن لم تكن منضبطة وتعمل تحت مضلة القانون ضمن هياكل مؤسسية راسخة.

 فالحرية الأقتصادية منذ وجدت ، كانت وماتزال  ساحة حرب حقيقية دائمة بين المتنافسين من منتجين وباعة سلع وخدمات، وبين هؤلاء والمستهلكين وقود الحرب غير المتكافئة . وفي هذه الحرب ومن دون الحروب الأخرى في التأريخ كله، لايعتبرضحاياها شهداء ، ولاتقام لهم اية مراسيم عزاء.

 اما ما يقال بأنها ترفع ما تشاء ولا تذل احدآ ،  فهي والعياذ بالله كذبة لا يرقى اليها الشك. فلقد جهد المتنافسون الكباردون كلل اوخجل ، لتحويل اهم مبادئ الحرية الأقتصادية ’المنافسة الحرة’ الى تنافس أحتكاري ، يتقاسم وحوشه المنافع على  حساب آخرين، ممن لا يجيدون الكذب والغش، او ممن لايزاولونه ترفعآ وعفة. لقد استهوت المنافسة الحرة لهذا السبب الكثيرين، لأنها ببساطة تشكل مجالآ رحبآ لمن لا يخاف عقاب الدنيا وألآخرة، ولأنها ببساطة لاتميز بين الحلال والحرام  عند الضرورة، وفي غياب سلطة القانون، الضامن لحقوق الصالح العام ضد الأحتكارمن اي صنف.

وهنا يظهر واضحآ، كم هو ضروري لتقف جهة قوية مدعومة بسلطة القانون، ومؤهلة لتطبيقه دون خوف من احد، ودون تمييزاو مداهنة، لحماية الناس، كل الناس و نشاطاتهم  الضرورية، لمزاولة حياتهم ومتطلباتها، أملآ في مستقبل أفضل ضمن حدود جغرافية معلومة. وهذه الجهة المؤهلة التي تعارف على احترامها وألأعتراف بها هي الدولة.

لنعد الى مخاوف  انصارالحرية ألأقتصادية من تدخل الدولة في النشاط ألأقتصادي ، ولنحاول الأجابة على السؤال التالي:

 لماذا ينبغي ان تتدخل الدولة في النشاط الأقتصادي؟

ولللأجابة على هذا السؤال، لابد من توضيح ما يعنيه مفهوم الدولة ودورها. الدولة ببساطة هي المؤسسات التي تشكلت عبر القرون الماضية، للدفاع عن حدود و ثروات البلد ضد العدوان الخارجي، و لتنظيم شؤون الحياة في الداخل، ودفع الأخطاروألأضرار التي قد يتعرض لها المجتمع.وقد انشأت لهذه المهام السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية التي اضطلعت بادوار تطورت عبر السنين. ان  السلطات الثلاث قد تطورت هي الأخرى وازدادت تفرعآ وتشابكآ مع تشعب وتعقد الحياة في كل الدول تقريبآ.

 أن التنمية الأقتصادية في البلدان الراسمالية احتلت مكانآ بارزآ في سياسات الدولة على مر العقود. ومن الخطأ الأعتقاد ان الدولة الرأسمالية لم تتدخل في النشاط الأقتصادي ،لكونها الوطن ألأم لمبدأ الحرية ألأقتصادية للأفراد والجماعات.

 ان العكس هو الصحيح، فالدولة الراسمالية، لم تكن فقط ،المساند والراعي لهذا المبدأ، بل ايضآ المدافع عنه في حالة التجاوز على محتواه وأهدافه،  لحماية حقوق المستهلكين، المستفيدين من نشاط الشركات البائعة والمنتجة للسلع والخدمات.

 لقد قامت الدولة  بأستصدار التشريعات والأنظمة والأجراءات المنظمة لنشاط الأفراد والشركات العاملة داخل حدود الدولة وخارجها. ونفذت سياسات مالية ونقدية كجزء من دورها لتنظيم الحياة ألأقتصادية والأجتماعية ولتطويرها الى ألأفضل في المستقبل. وقد استخدم النظام الضريبي  لتحقيق الموارد المالية الضرورية لتمويل نشاطاتها تلك،و كذلك لتوجيه الفعاليات ألأقتصادية بما يخدم سياسة التنمية التي تنفذها الدولة في اي وقت من الأوقات.

 لقد شرعت الدولة في المراحل المتأخره من تطور النظام الرأسمالي، قوانين صارمة لمنع الأفراد والجماعات من الأخلال بمبدأ الحرية ألأقتصادية و تحويله الى مبدأ للحرية الأحتكارية. حيث شهد التطور ألأقتصادي محاولات الجشعين من الأفراد والجماعات الناشطة في المجالات الأقتصادية المختلفة، أستغلال مبدأ الحرية ألأقتصادية والمنافسة الحرة، للأنفراد بسوق السلع والخدمات، وأزاحة المنافسين لهم بوسائل عدة، وفرض الأسعار التي تحقق لهم اعلى الأرباح على حساب المستهلكين.

وما زالت هذه القوانين سارية المفعول، رغم ما تواجه به من محاولات التفاف وتهرب من محدداتها، مستفيدين من الثغرات القانونية في ديباجتها، او من خلال الأتفاقات السرية التي تعقد بين الناشطين في عملية الأحتكار،افرادآ كانوا او شركات،صغيرة اوكبيرة. ان ما تقوم به الدولة في المجالات المنوه عنها، يتعدى ماتعارف عليه في الأدب الأقتصادي ’الدور غير المباشر’ للدولة وهو الأكثر شيوعآ في وقتنا الحاضر. فقد مارست الدولة نشاطآ اقتصاديآ مباشرآ، قبل أن تستقر على الدورغير المباشر،و بعد ان أرست قواعد نظامها الأقتصادي وألأجتماعي.

 وعلينا ان نذكر هنا ان الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا النموذج الساطع للنظام الراسمالي القائم على الحرية ألأقتصادية،كانوا  المبادرون  الأوائل للتدخل المباشرفي الحياة الأقتصادية.

 لقد تدخلت دولة الأقتصاد الحر في النشاط الأقتصادي،لا لتنافس القطاع الخاص في نشاط كان مقتدرآ على  أدائه، وانما لأن القطاع الخاص لم يكن راغبآ للمخاطرة في ألأنخراط في هذه النشاطات، اما لأن متطلباته الفنية والرأسمالية تفوق أمكانياته، او ان الوفورات الخارجية لم تكن مكتملة . فقد استثمرت الدولة قدراتها ألأقتصادية  في أقامة صناعات الحديد والصلب، وصناعة عربات السكك الحديد،  والطاقة بأصنافها المتعددة، وعربات النقل البري والطائرات و صناعة النفط والغاز وألأتصالات وخدمات البنية التحتية وغيرها. هذا أضافة الى قيام الدولة بالأشتراك مع القطاع الخاص في أقامة مشاريع مشتركة في المجالات المذكورة.

ان ذلك النشاط  المباشرللدولة قد أملته الظروف ألأقتصادية ومتطلبات التطور ألأقتصادي في حينه، بصرف النظرعن تعارضه مع نظام  الحرية ألأقتصادية. لقد كان الهدف هو تشغيل الموارد ألأقتصادية المادية والبشرية، التي كانت ستظل عاطلة، مادام القطاع الخاص غيرقادرآ ولا مؤهلآ لتشغيلها في تلك المرحلة من التطورألأقتصادي. لقد بيعت مشاريع الدولة تلك لاحقآ للقطاع الخاص، بعد أن زالت الأسباب التي أضطرت الدولة للقيام بها في فترة تأريخية مضت.

أن ألعراق حاليآ بحاجة الى توجه مكثف ومستمر، مشابه لما قامت به الدول ألأوربية والولايات المتجدة ألأمريكية، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر،أبان الثورة الصناعية وما بعدها، لتحقيق التنمية ألأقتصادية.

 ان مثل هذا التوجه من قبل الدولة، ضروري لتحديد ألأتجاه والأهداف، التي ينبغي على عملية التطور ألأقتصادي والأجتماعي أن تبلغها في المستقبل المنظور، و العمل على استقطاب مختلف القوى ذات التاثير في  أستخدام الموارد ألأقتصادية والأجتماعية لتحقيق ألأهداف المنشودة.

 و يتطلب في الوقت نفسه ان تقوم الدولة بتحديد الحقول ألأقتصادية التي لا تستهوي القطاع الخاص المحلي او الأ جنبي لخوض غمارها، عند ها تباشر مؤسساتها المختصة بألأستثمار المباشر فيها.

ان ألأستثمار الحكومي الواسع النطاق، سيخلق فرصآ مواتيه للقطاع الخاص لمباشرة الأستثمار هو ألأخر، مستفيدآ من العلاقات ألأمامية و الخلفية التي تنشأ بفعل لأستثمارات الحكومية.

 ان مثل هذا التوجه يعتبر ضروريآ في الحالة العراقية الراهنة، للخروج بالأقتصاد من حالة الفوضى العارمة التي تعيق التحولات البنيوية، و تعمل على أعاقة تطوره وتحقيق التقدم والرخاء للعراقيين. ان ألأقتصاد العراقي يعيش ازمات معقدة عديدة، في مقدمتها  وأخطرها البطالة الواسعة في صفوف القادرين على العمل.

 أن فرص العمل الشحيحة، بسبب ما اصاب المشاريع ألأقتصادية ومؤسسات الدولة من خراب الحروب والأهمال،  أظافة ألى ندرة المشاريع ألأقتصادية الجديدة التي يمكن ان توفر فرصآ جديدة للعمل. هذا الى جانب  ما أنتجه الأحتلال من فوضى غيبت فيها سلطة الدولة وهيبة القانون والنظام العام، الذي احال العراق  الى ساحة ترتكب فيها موبقات لم تخطر على بال مروجي الجريمة المنظمة في العالم.  لقد أوجد هذا الرعب في نفوس اصحاب رأس المال، وأرغمهم على ألأنكفاء عن القيام بأي نشاطات اقتصادية ذات شان في هذه البلاد.

فجرائم القتل و ألأختطاف، و نهب شاحنات النقل وتفجير الأسواق وسرقة البنوك، والتزوير،ما هي الا أشارات طاردة للنشاط ألأقتصادي ومحبطة للقائمين به.

في بلد كهذا و في ظل هذا المناخ الفوضوي، حيث يعتبر احترام القانون ضعف، والأستهتار بالنظام العام بطولة، والتغاضي عن المخالفة أستقامة، لا يمكن  الحد يث عن الحريةألأقتصادية، المتعارف عليها في ألأدب ألأقتصادي، وانما عن فوضى السوق وحرية أانتهاك الحقوق وافقار الفقراء.

أن الباحثين عن فرص للأستثمارفي العراق، من أصحاب رؤوس الأموال المحليين والأجانب، وهم يراقبون هذه الفوضى عن كثب، يتوجهون بانظارهم صوب حكومة عراقية جادة، تعزز الثقة بالسوق من خلال فرض القانون والنظام. ومن دون ذلك لن تتوقع من واحد او مجموعة من أصحاب ألأعمال غير المتورطين بأنشطة غير نظيفة لمباشرة اي نشاط اقتصادي في صالح التنمية و اعادة الأعمار في العراق.

 وفي جو مثل هذا، يكون من الضروري ان تقوم الدولة ببسط سلطة القانون، وتعزيزدور مؤسساتهاالتنفيذية والتشريعية والقانونية قبل كل شيئ، لضمان النزاهة والعدالة وحماية النظام العام، كشرط لأستتباب الثقة في نفوس الرواد ألأقتصاديين من مختلف ألأهتمامات. ومن دون التقدم في هذا ألأتجاه، فأن( فوضى السوق) الرائجة حاليآ، ستولد المزيد من التشوهات في ألأقتصاد العراقي المشوه أصلآ.   

والى ان تحل الثقة والتفاؤل في الأقتصاد العراقي، فأن فترة من ألأنتظار والترقب سيحتاجها المستثمرالمحلي وألأجنبي، قبل أن يبدأ في مزاولة نشاط ما، مما يتطلب من الدولة ألأضطلاع بواجباتها تجاه المجتمع، لأشباع حاجاته المادية والخدمية. ولأضطلاع الدولة بدورها القيادي في عملية التنمية ألأقتصادية، التي هي شبه معطلة في ظل المناخ الفوضوي الحالي، ينتظرمن الدولةان تكرس الجزء الأكبر من موارد العراق النفطية، لأعداد برنامج أنمائي شامل للبلاد، للخروج من حالة  التردي ألأقتصادي الشامل الحالي. على ان ينطوي البرنامج ألأنمائي على سياسةالتدخل المباشركما سياسة التدخل غير المباشر، للمباشرة بثورة أستثمارية شاملة، في كافة حقول النشاط ألأنتاجي، في الزراعة وألصناعة والبنية التحتية،وازالة التشوهات البنيوية التي انتجتها  السياسات البيروقراطية  السابقة.