| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عدنان عاكف

 

 

 

الخميس 29/11/ 2012



هل يعود الماءُ في النهر بعدما

عدنان عاكف

في كلمة له امام أعضاء اللجنة العليا للمياه أكد السيد رئيس الوزراء على ضرورة رسم ستراتيجية عامة لأسلوب التفاوض مع الدول التي تشترك مع العراق في المنبع او المصب. ودعا الى البدء بسياسة جديدة، كبديل للثقافة السائدة حاليا في التعامل مع الماء . وطالب بالبدء بسياسة تقوم على احترام الثروة المائية وعدم التفريط بها.

وكان المالكي قد ترأس يوم الاثنين الماضي اللجنة العليا للمياه التي تضم شخصيات سياسية هامة و كبار المعنيين بمسألة المياه. مشيرا الى ان هذه اللجنة ستتحول الى مجلس أعلى للمياه .

ليس في هذه الدعوة ما هو جديد، وقد سبق للكثيرين من المهتمين بقضية المياه في العراق ان توقفوا عندها في أكثر من مرة. ولكننا نجد أنفسنا في كل مرة عاجزين عن فعل شيء، ولسان حالنا يردد مع الفنان فؤاد سالم : " حجيك مـُطـَر صيف، ما بَلل ليمشون ". الجديد فيها انها هذه المرة تصدر عن رأس السلطة التنفيذية في البلاد. وهذا برأيي في غاية الأهمية، لأنها تعني باننا مطالبين بالكف عن المزايدات بشأن هذه القضية والتعامل معها بمسؤولية كبيرة.

من أجل ان ندرك اهمية ما ورد في هذه التوجيهات المقتضبة لا بد من وضعها في سياقها وفي زمنها، وضمن الظروف التي تعرفها مشكلة المياه ، والتي لا يمكن وصفها إلا بتعبير " الأزمة ". وهي تتمثل في شحة المياه في الأنهار وفي جميع المسطحات المائية، الناتجة عن الانخفاض الكبير في واردات المياه ، بسبب بناء السدود الكبيرة في بعض دول الجوار، وانحسار مياه الأمطار في السنين الماضية بشكل لم يسبق له مثيل، والاحتباس الحراري الذي يتفاقم تأثيره في العراق وفي المنطقة، والزيادة في نسبة الملوحة في مياه الأنهار والمياه الجوفية، والملوحة، والتدهور الكبير في خصوبة الأرض، والزحف المتواصل والمتسارع لظاهرة التصحر، والتجاوزات الكثيرة على الأراضي الزراعية، التي استبدلت الغطاء النباتي الأخضر وأشجار النخيل بالكتل الكونكريتية وأبراج النفط , والزيادة الخطيرة في نسبة تلوث المياه، وغيرها. هذه عينة من القضايا التي ينبغي على كل من يريد ان يتصدى لحل أزمة المياه ان يضعها نصب عينيه.

لقد تأخرت دعوة المالكي ما يزيد عن نصف قرن، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية الشروع بتنفيذ ما ورد فيها، بشرط ان يكون شروعاً فورياً لا يقبل التأجيل والتمييع، ومبنياً على أسس علمية، وليس مجرد ردة فعل طارئة سرعان ما يطويها النسيان - حالما تجابهنا أزمة جديدة، وما أكثر أزماتنا - كما يحصل في العادة مع الكثير من التوصيات والمقترحات.

من أجل ان يحصل ذلك ينبغي ان تكتسب تلك التوجيهات قوة القانون، وان يتم تفعيل القوانين القديمة ذات العلاقة، التي رُكنت على الرف منذ سنين. وان البدء بتبني سياسة جديدة يعني التخلي بالفعل عن الثقافة السائدة اليوم في المجتمع، على ان تبدأ ثقافة بديلة تعتبر قضية المياه قضية الجميع، بل وقضية أمن وطني. فنحن بحاجة ماسة للتوقف مع النفس قبل فوات الأوان، والاقرار بان أزمة المياه تدق ناقوس الخطر!

ان الاقرار بأهمية رسم ستراتيجية للتفاوض يعني اعترافاً ضمنياً من رأس السلطة التنفيذية - وهي خطوة شجاعة تحسب له - بان العراق ما زال يفتقر الى مثل هذه الاستراتيجية. وهذا يعني ان علينا الانتقال الى الخطوات العملية المبنية على اسس علمية. والأسس العلمية تفترض ان نمتلك تصوراً واضحاً بشأن القانون الدولي وآلية التفاوض مع الدول المجاورة، وكيفية التعامل مع محكمة العدل الدولية، وغيرها من القضايا القانونية المتعلقة بالأنهار الدولية. وكل هذا يتطلب وجود خبراء متخصصين.

ان سلوكنا اليومي مع المياه في كل مكان، وزخة المطر الأخيرة التي أغرقت نصف بغداد وجميع محافظات العراق يؤكدان اننا نفتقر الى الرؤيا الواضحة تجاه الأزمة . فمن يسمح لعاصمته بتوجيه قنوات الصرف الصحي، وهي تحمل كل ملوثات وسموم الحضارة المعاصرة مع مليون ومئتي ألف متر مكعب من المياه الملوثة الى النهر، الذي سوف يجف بعد 40 سنة، لا يمكن ان يمتلك ستراتيجية متبلورة للتعامل مع أزمة المياه..

علينا ان نعترف بتقصير الحكومة، وقبلها الحكومات المتعاقبة منذ منتصف القرن الماضي، بشأن التفاوض مع دول الجوار. وحسب أحد الخبراء الأجانب ان، عدم تحرك الحكومات العراقية منذ السبعينات لتقديم شكوى الى المحكمة الدولية او الأمم المتحدة، يسمح للمتضررين من العراقيين برفع دعوى قضائية ضد هذه الحكومات لتقصيرها في المطالبة بحقوق الشعب العراقي،.

لقد تقلصت واردات العراق من المياه بأكثر من الثلث خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وحسب أرقام وزارة الموارد المائية فان نسبة العجز المحتملة في دجلة والفرات عام 2015 ستصل الى 43بالمئة وحسب نفس الوزارة انخفض تدفق الفرات من 18 مليار متر مكعب عام 1990 الى 9 مليارات عام 2008؛ ليصل الى أقل من 7 مليارات حاليا. وتبين هذه الأرقام ان نقصان المياه خلال العقدين الماضيين كان يجري بسرعة شبه ثابتة.

وزارة الموارد المائية أكدت ان انخفاض مستوى الماء في الفرات بلغ 60 سم عن العام السابق.، ووزير الزراعة وصف الوضع بالكارثة البيئية. فاذا كان وضع الفرات الحالي يوصف بالكارثة البيئية – وهو وصف أكثر من دقيق – فينبغي على خبراء مجمع اللغة العربية ان ينكبوا على نحت مصطلح لغوي يكون مناسبا لوصف الوضع الذي سيكون عليه العراق ككل ،فيما لو تحققت النبؤة وخسرت البلاد 43بالمئة من مواردها المائية بعد أقل من اربع سنوات !

تشير مجمل الأرقام الى ان دجلة الخير سوف تفقد نخيلها وضفادعها ومياهها، قبل ان تنقضي الأربعين سنة التي ذكرتها تقارير المنظمات الدولية حول جفافه المحتمل. واذا كان مِن دَرْسِ يمكن ان يتعلمه الإنسان من الحياة فهو ان " الطبيعة لا ترحم من يعبث بها ". قد نستعيد بعضا من ما نفقده من ماء، وقد ننجح في إعادة بعض الأحياء المائية التي أجبرتها التغيرات البيئية الى الهجرة. ولكن ذلك سيكون في نطاق ضيق، وقد يكون بعد فوات الأوان.

ان كل المؤشرات لا تدعو الى التفاؤل، بل انها تحذر من ان مصيرنا قد يكون كمصير أولئك الذين جفت أنهرهم وتصحرت اراضيهم وتلفت مزارعهم وبساتينهم ولسعتهم حرارة الرمال، فاستجاروا من الرمضاء بالنار! !

قبل أكثر من ألف عام وقف شاعر عباسي، اسمه احمد ابن بندار، يتأمل النهر المريض الذي نشأ وترعرع على ضفافه ووجده يحتضر، فقال :

وقالوا يعود الماء في النهر بعدما
عفت منه آثار و جَفتْ مشاربه
فقلتُ الى ان يَرجع الماءُ عائدا ويَعشبُ شطاه تـَموتُ ضفادعه

ألا يستحق هذا الشاعر ان يـُمنـَح جائزة نوبل في العلوم الطبيعية ؟ والأهم من ذلك : ألا يستحق ان يتوج بلقب " عالم البيئة الأول " ؟

يا ليتنا استوعبنا حكمة الطبيعة كما استوعبها ابن بندار قبل ألف عام.

ويا تـُرى ماذا سيقول الجواهري لواستفاق فجأة ورأى ان دجلته قد جفت مشاربها ويبس عشبها، ونفقت أسماكها، وغدت حزينة كئيبة من دون النقيق بعد ان هجرتها عشيقاته الخليعات، اللواتي ألبسهن " من الطحالب مزهوَ الفساتين " ؟

لا أعرف كيف ستكون ردة فعله. لكن صدى صوته الآتي من زمن الخير سيبقى يتردد على شطي النهر المحتضر:
حَييتُ سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين





 


 

free web counter