| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عدنان عاكف

 

 

 

السبت 20/6/ 2009



العلاقات الاجتماعية ـ السياسية في بابل
القرن السابع ق.م. ـ القرن الرابع ق.م.

م.أ. دندمايف
ترجمة : عدنان عاكف

مقدمة
كتاب " العبودية في بابل " للمؤرخ السوفيتي م. دندمايف صدر في موسكو عام 1974، وهو من الحجم الكبير ويقع بنحو 500 صفحة. كتاب قديم بالفعل، ومع ذلك ما تزال المكتبة العربية خالية من أي كتاب يتناول العبودية كنظام اجتماعي في التاريخ القديم. انه لأمر محزن ومؤلم. كيف يمكن ان نفهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في العصور القديمة لبلداننا ان كنا نجهل كل شيء عن العبيد، مع اننا نتحدث عن بلدان كانت العبودية فيها هي النظام الاجتماعي السائد ؟ هذه النقطة بالذات هي التي حفزتني على ترجمة هذا الكتاب . بدأت الترجمة في مدينة حلب السورية عام 1994 ولم تنتهي حتى اليوم.

تعتبر الفترة المحصورة بين القرنين السابع والرابع ق.م. من المراحل المهمة في تاريخ منطقة الشرق الأوسط. لقد شهدت هذه المرحلة انهيار الدولة الآشورية، وذلك بعد حرب ضروس متواصلة. وعلى أنقاضها نشأت الدولة البابلية الحديثة. والى هذه المرحلة أيضا يعود الانبعاث الجديد للحضارة البابلية والازدهار الاقتصادي للبلاد، وما تلى ذلك من احتدام الصراع على زعامة المنطقة بين مصر وبابل ومملكة ميديا، ومن ثم بسط النفوذ الفارسي على الشرق الأوسط (ومناطق أخرى)، والذي انتهى باكتساح المنطقة من قبل جيش الكسندر المقدوني.

وبالرغم من توالي مثل هذه الأحداث العاصفة إلا ان هذه الفترة بالذات كانت من بين أغنى الفترات التاريخية بالوثائق التاريخية التي وصلت الينا. ويقول مؤلف الكتاب بهذا الصدد :

" لقد وصلنا من بلاد بابل آلاف الوثائق الاقتصادية والقانونية والإدارية، والتي تختلف بمحتوياتها الى حد كبير: وصولات أمانة، وثائق الرهن العقاري، عقود بيع وشراء، عقود تأجير وهبة أراضي زراعية، والدور السكنية والممتلكات الأخرى، عقود تأجير العبيد والماشية، عقود تعليم الحرف المهنية، وصولات دفع ضرائب، وثائق خاصة بالتجارة الدولية، محاضر محاكم، مراسلات ذات طابع رسمي، مراسلات شخصية وعائلية، وحتى ـ لو استخدمنا المصطلحات المعاصرة ـ مخصصات الإيفاد وجداول الملاكات وفهارس العناوين. يضاف الى كل ذلك ما يتوفر من المدونات التاريخية والنقوش الملكية، ومقتطفات من القوانين، والمؤلفات الأدبية والفنية، ونصوص طبية، فلكية، لغوية، أدبية، رياضية، ودينية، وقواميس، وخرائط جغرافية، وتخطيطات لدور سكنية، وبطاقات لمختلف الأغراض،… الخ. هذه المادة الغنية والمتنوعة تسمح لنا بإعادة رسم وتشكيل الحياة اليومية للبابليين ".

واستنادا الى دراسة وتحليل هذا الكم الهائل من الوثائق المدونة على الرقم الطينية، حاول مؤلف الكتاب ان يقدم لنا صورة مقاربة للحياة الاجتماعية والاقتصادية، ليقترب في حالات كثيرة من تقديم صورة تفصيلية للحياة اليومية للبابليين.

النص التالي جزء من الفصل الأول من كتاب " العبودية في بابل " للمؤرخ السوفيتي م. دندمايف. والكتاب فريد من نوعه، يتناول فيه الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في بلاد بابل منذ نهاية الألف الثاني ق. م. وحتى سقوطها بعد الغزو الفارسي ، بقيادة كورش في سنة 539 ق.م. وكان سقوطها الأخير، كما هو معروف، قد تم في سنة 331 ق.م. على يد ألكسندر المقدوني...


                                                                                                    المترجم

(1)
التــأريــخ السياسي


لعب الكلدانيون الدور الحاسم في نشوء الدولة البابلية الحديثة، وكان لهم الدور الأكبر في تطورها اللاحق فيما بعد. ولا شك ان بابل مدينة للقبائل الآرامية، التي ينحدر منها الكلدانيون، بالازدهار الاقتصادي الذي عرفته خلال تلك المرحلة والذي لم يسبق له مثيل. أحتل الكلدانيون جنوب البلاد في النصف الثاني من القرن التاسع ق.م. وراحوا يزحفون تدريجيا باتجاه الشمال. أخذ الفاتحون الجدد بالحضارة البابلية القديمة وهضموها جيدا، وإتخذوا من مردوخ ـ الرب الأعلى لبابل ـ إلها لهم. في نفس الوقت أخذت عملية الأرممة (*) تحتل موقعها في الدولة الآشورية تدريجيا. ولكن الدور القيادي لم يعد للكلدانيين، بل للآراميين الشماليين، عبدة الإله سين ـ إله القمر. واحتل سين عند الآشوريين فيما بعد نفس المنزلة التي كان يحتلها الإله آشور.

في سنة 729 ق.م. فتح الملك الآشوري تجلاتبليسسر الثالث مدينة بابل، وبذلك فقدت البلاد استقلالها. لقد تحول الكهنة وكبار موظفي الدولة في المدن الشمالية إلى ركيزة للسيطرة الآشورية، فيما أخذ الكلدانيون المبادرة للكفاح من أجل الاستقلال، فكسبوا تعاطف فقراء المدن. لقد كان ذلك مبررا لسنحاريب ليقوم بهدم بابل سنة 702 ق.م. بعد وفاة أسرحدون قسمت الدولة الآشورية إلى شطرين: في آشور يحكم الملك آشوربانيبال ـ منذ سنة 669 ق.م. ـ وفي بابل أخوه الملك التابع له شمش شم أوكين. ولكن شمش أعلن العصيان ضد أخيه عام 652 ق.م. ولم تخمد الاضطرابات إلا بعد مرور أربعة سنوات. توفي آشوربانيبال سنة 629 ق.م. تاركا الحكم لسين شار أشكور، وهو ذاته الذي كان (
حسب ر. بورجير ) يحمل في بابل الاسم الثلاثي آشور أتيلا ايلاني، وهو الملك الآشوري ما قبل الأخير.

في سنة 626 ق.م. أعلن الحاكم الكلداني نبوبولصرـ كان يبسط نفوذه على جنوب البلاد ـ العصيان. وفي نهاية تلك السنة نصب نفسه ملكا بابليا، وأسس بذلك مملكة جديدة. على إثر ذلك بدأت حرب ضروس تواصلت عدة سنوات بين الآشوريين والبابليين من أنصار نبوبولصر. في البداية حقق الآشوريون انتصارات هامة وبسطوا نفوذهم على وسط وجنوب البلاد. وفي تشرين الأول من عام 626 ق.م. فقد الملك سين شار اشكن السيطرة على بابل. وخلال الفترة 622 ـ 620 ق.م. جرى صراع مرير حول مدينة اوروك انتهى بهزيمة الآشوريين. ركز الآشوريون دفاعاتهم حول مدينة نيبور، التي حاصرتها قوات نبوبولصر لفترة طويلة، مما دفع بأهالي المدينة إلى بيع أطفالهم ليتحولوا الى رقيق، بسبب عجزهم عن إعالتهم. لم يترك الآشوريون نيبور إلا في سنة 615 ق.م. وفي تلك السنة نقل نبوبولصر الحرب إلى بلاد آشور ذاتها فهاجم مدينة آشور. واضطر البابليون إلى التراجع، ولكن في سنة 614 ق.م. حلت بالآشوريين كارثة كبرى، وذلك إثر الضربة المميتة التي وجهها إليهم ملك الماذيين كي اخسار، بعد اتفاقه مع ملك بابل نبوبولصر. وسقطت آشور قبل وصول البابليين، وعلى أنقاضها وقع كي اخسار و نبوبولصر وثيقة السلام. وفي عام 612 ق.م. سقطت عاصمة الآشوريين ـ نينوى. بعد ذلك عاد كي اخسار مع الجزء الأكبر من قواته إلى مقر إقامته. صمد الآشوريون في حران بضعة سنوات، لكنهم طردوا منها إلى سوريا سنة 609 ق.م..

أثار التحالف الجديد بين الماذيين والبابلين والانتصارات التي أحرزها مخاوف المصريين كثيرا، لذلك سارعوا الى التحالف مع الآشوريين، بالرغم من انهم لم يتحرروا من السيطرة الآشورية إلا في عام 655 ق.م. في عام 608 ق.م. وصلت القوات المصرية بقيادة الفرعون نخو الثاني إلى الفرات، وحارب البابليين ثلاث سنوات متواصلة، مستعينا بما كانت سوريا تقدمه له من مساعدات، اذ كانت تخضع لحكمه. ولكن الآشوريون هزموا في هذه الحرب. وفي عام 605 ق.م. ألحق البابليون بقيادة نبوخذنصر الثاني، ابن نبوبولصر، الهزيمة بالجيش المصري عند مدينة كركميش. وفي عام 604 ق.م. بسط البابليون سيطرتهم على الجزء الأكبر من سوريا وفلسطين. وفي سنة 601 ق.م. نظموا حملة باتجاه الحدود المصرية، ولكن المعركة لم تحسم لصالح أي من الطرفين المتحاربين.

في عام 597 ق.م. جهز نبوخذنصر حملة باتجاه القدس. وبعد حصار طويل فتحها وسبى الآلاف من سكانها إلى بابل، ونصب عليها ملك جديدا اختاره بنفسه. وبذلك أصبحت سوريا وفلسطين تحت سيطرة البابليين. وفي سنة 595 ق.م. حدث تمرد في بابل، لكن نبوخذنصر استطاع ان يسيطر على الموقف وقبض على قادة التمرد قبل ان يستفحل ويتسع.

بعد وفاة نبوخذنصر في سنة 597 ق.م. بدأ الصراع بين المجموعات الأثنية الرئيسية في بابل: بين الكلدانيين والآراميين الشماليين. وخلال خمس سنوات تعاقب على الحكم ثلاثة ملوك: اميل مردوخ، ونرجال شر اوصر ( أو نرجلصر ) ولباشي مردوخ. وفي آيار من سنة 556 استولى الآرامي نبونيد على الحكم. وقد سعى القائد الجديد إلى توحيد القبائل الآرامية في آسيا من أجل تشكيل دولة موحدة قادرة على صد الخطر القادم من جهة بلاد فارس. ولهذا السبب أعار نبونيد إهتمامه بالإله سين، فأعاد بناء معابده وبنى معابد جديدة في بلاد بابل وخارجها، وخاصة في حران. وبالرغم من كونه من أتباع الآلهة البابلية التقليدية، مثل مردوخ ونيرجال، إلا انه فضل عبادة الإله سن، مما أثار استياء الكهنة وسكان المدن القديمة: بابل، بارسيا، نيبور، لارسا، اوروك، وأور. ولكن معارضيه كانوا مشتتين، وكان كل معبد يحاول ان يقدم آلهته في المقام الأول. وحين لم يجد الدعم والتأييد اللازمين في بابل سعى الى تعزيز الأجزاء الغربية من البلاد. انشغل نبونيد لأكثر من عشر سنوات يحارب في إقليم التيماء في شبه الجزيرة العربية، تاركا الحكم في بلاد الرافدين لنائبه ـ ابنه بيل شاصر. وإذا كانت الدولة البابلية الحديثة في بداية عهد نبونيد قد شملت بلاد الرافدين وسوريا وفلسطين وبلاد الميذيين ، فان المقاطعة الأخيرة أصبحت سنة 546 ق.م. تحت سيطرة الفرس. في تلك الفترة وضعت مصر وبابل خلافاتهما جانبا، خوفا من الحروب القادمة مع بلاد فارس.

في شهر آب من عام 539 ق.م. انهزم الجيش البابلي أمام القوات الغازية بالقرب من مدينة اوبيس الواقعة على نهر دجلة. وفي يوم 10 تشرين الأول استطاعت قوات غوبري، قائد الملك كورش ان تحتل مدينة سيبار بدون قتال، وبعد يومين سقطت مدينة بابل. أعلن كورش ان قواته دخلت بابل بدون قتال وحررت أهلها من ظلم نبونيد، الذي وجه اليه تهمة الاستهجان بآلهة البلاد وازدرائه لها. أعاد كورش تماثيل الآلهة التي سبق ان رفعها نبونيد من المدن البابلية وأعادها إلى معابدها الأصلية، وسمح للشعوب التي أجبرت على البقاء في بلاد الرافدين بالعودة إلى أوطانها الأصلية. إنتهج الفرس تجاه السكان الأصليين وديانتهم سياسة مخالفة كليا للسياسة التي كان يتبعها البابليون والآشوريون، وساعدهم ذلك كثيرا على بسط نفوذهم على البلدان الواقعة إلى الغرب من بلاد الرافدين.

بعد سيطرته على بابل أبقى كورش شكليا على المملكة البابلية، ولم يجر أي تغيير جوهري في البنية الاجتماعية للبلاد. أصبحت بابل مقرا من مقرات المملكة الاخمينية. ولم تشهد الحياة الاقتصادية تغييرات جوهرية تذكر. وبالرغم من سيطرة الفرس إلا ان معظم ( وربما جميع ) الشخصيات المهمة في الجهاز الإداري حافظت على مواقعها السابقة. لقد سعى كورش إلى تهيئة ظروف طبيعة للحياة الاقتصادية، وتطوير تجارة التصدير والاستيراد، والمحافظة على الوسائل التقليدية لإدارة البلاد. أضف الى ذلك ان حكم كورش لم يعتبر سيطرة أجنبية لأنه استلم السلطة شكليا من يد مردوخ، وفق المراسيم المقدسة. ومع ذلك فقد تحولت بلاد بابل من دولة مستقلة إلى ولاية تابعة للدولة الاخمينية وفقدت استقلالها في السياسة الخارجية، في حين أصبحت السلطة العسكرية والإدارية العليا بيد نائب الحاكم الفارسي.

لم يحدث أي تغيير في سياسة الفرس تجاه البابليين خلال حكم قمبيز. في عام 522 ق.م. وعندما كان قمبيز في مصر استولى أخوه باردا على الحكم في إيران. وسرعان ما تم الاعتراف به كملك لبابل ولسائر البلدان الأخرى. في شهر أيلول من تلك السنة استولى داري الأول على الحكم بعد ان قتل باردا. وفي هذا الوقت حدثت إنتفضت في بابل بزعامة نبوخذنصر الثالث.، استطاع داري ان يقمع الانتفاضة في شهر تشرين الأول. وحين كان داري الأول منشغلا في تهدئة الشعوب الأخرى اشتعلت في بابل انتفاضة أخرى في شهر آب 521 ق.م. بقيادة نبوخذنصر الرابع. لكنها قمعت أيضا في نهاية تشرين الثاني. وللحد من النزعات الانفصالية أقدم داري الأول على إصلاحات إدارية ومالية مهمة، سمحت بتكوين نظام متين لإدارة شؤون الدولة ومراقبة البلدان المستعمرة ونظام لجبي الضرائب، ووسع ملاك العسكريين. ويبدو ان هذه الإصلاحات انطلقت سنة 518 ق.م. واستمرت عدة سنوات. وقد نتج عنها قيام نظام إداري جديدة في بابل والبلدان المستعمرة الأخرى. ولم تطرأ على هذا النظام أية تغييرات جوهرية حتى نهاية حكم الإخمينيين.

بعد احتلال بابل اختار كورش نائبا له على هذه البلاد وهو البابلي نابي اخو بوليت، الذي كان يشغل هذا المنصب في عهد نبونيد. لكنه قام بعد مرور أربع سنوات ( سنة 534 ق.م.) بتشكيل ولاية واحدة ضمت بلاد الرافدين وبلاد ما وراء النهر (( ebir - nari ، أي البلدان الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات ـ فينيقيا وسوريا وفلسطين. واختار الفارسي غوبارو حاكما على هذه الولاية، وظل يشغل هذا المنصب أكثر من عشر سنوات. وفي سنة 520 ق.م. اختار الفارسي اوشتانو حاكما للولاية، ولكن سرعان ما قسمت فيما بعد إلى ولايتين، فنصب اوشتانو حاكما على بلاد الرافدين، والفارسي تتاني واليا على بلاد ما وراء النهر. وكان الحاكم تتاني من الناحية الإدارية خاضعا لحاكم بلاد الرافدين.

كانت المهام الإدارية والعسكرية في عهد كورش وقمبيز مركزة في يد شخص واحد هو حاكم الولاية ـ المرزبان ـ satrap ـ. وتشير إلى ذلك، على الخصوص، الوثائق المتعلقة بنشاط المرزبان جوبارو في بابل وبلاد ما وراء النهر، حيث كان يجمع بين نائب الحاكم المدني والعسكري. قام داري بتقليص سلطات المرزبان وذلك بفصله بين مهام المرزبان ومهام السلطات العسكرية. أصبح المرزبان في بابل وفي البلدان التابعة الأخرى موظفا مدنيا يحتل قمة الإدارة ويشرف على تطبيق النظام القضائي و الحياة الاقتصادية للبلاد، ويتابع جباية الضرائب. بعد إصلاحات داري أخذ الفرس يتبوءون المراكز الحساسة في جهاز الدولة وتركزت في أيديهم أهم المراكز المدنية والعسكرية. وأخذوا يعينون كقضاة في مؤسسات المقاطعات البابلية.

خلال عهد كسيرس عرفت بابل تغيرات سياسية مهمة الأخرى، وخاصة بعد سنة 482 ق.م. ـ حين انتفض البابليون بقيادة بيل شيماني في المرة الأولى وبقيادة شمش ريبا في المرة الثانية. لقد هدمت بابل عن آخرها وهدم معها معبدها الرئيسي الإيساجيل. أما تمثال الإله الأعلى مردوخ فقد نقل إلى بلاد فارس. واختتمت هذه الإجراءات بإلغاء المملكة البابلية، التي ضلت قائمة حتى ذلك الوقت ويحكمها ملك الفرس. كان الملك الأخميني حتى ذلك العهد يحمل لقب " ملك بابل، ملك البلاد ". ولكن بعد الملك كسيرس اقتصر اللقب على " ملك البلاد ". تميز التأريخ اللاحق للدولة الإخمينية بكثرة الاضطرابات وعدم الاستقرار في مختلف الولايات، وكثرة الانقلابات في القصور. كل ذلك أدى إلى إضعاف الحكم المركزي للدولة. في عام 331 ق.م. دخلت قوات ألكسندر المقدوني الى بابل.

قبل الانتقال إلى التأريخ الاجتماعي ـ الاقتصادي لابد من الإشارة إلى ما يلي : ساد في الوسط العلمي خلال القرن التاسع عشر رأي مفاده ان الشرق منذ تفكك النظام المشاعي البدائي وحتى العصر الحديث تميز بنوع خاص من التطور، أو بالأحرى طغى عليه طابع المحافظة والركود. المالك الأعلى للأرض هو الملك. أما الذين يزرعون الأرض فهم في أحسن الأحوال من الملاكين. لم يطرأ أي تطور في التكنيك والتجارة، كما لم تحصل أية تغيرات جوهرية في البنية الاجتما ـ اقتصادية للمجتمع. ورافق كل ذلك تلك السمة المميزة والتي لم تتغير: الاستبداد. ليس من الصعب ان نجد تفسيرا لهذا الرأي. كانت دراسة الشرق القديم في بداياتها، ولم تكن في حوزة العلماء الكثير من المعلومات. ولكن بحكم العادة اتضح انه ما يزال لهذه الآراء الخاطئة تأثيرها الكبير في العالم الغربي وفي وسطنا العلمي أيضا. فلو نحينا جانبا خصوصية تطور الرأسمالية وما يميزها من هزات لقاعدة الإنتاج وتجديدها، فلا أظن ان باستطاعة أحد ان يحدد أية سمات جوهرية أخرى يمكن ان تميز الشرق عن دول غرب أوربا ما قبل الرأسمالية. لم يكن في الشرق لا استبداد بدائي ولا استبداد ثابت، وأشك بوجود أية صفات عامة، يمكن كما يزعمون، ان تميز بلدان الشرق القديم ـ من مصر وحتى الصين ـ عن الدول القديمة في أوربا. لقد قطعت بلدان الشرق طريقا طويلة من التطور الاقتصادي،والتقني، والسياسي والروحي. لنأخذ على سبيل المثال ما حصل في حدود دولة واحدة، ولنقل سومر: ان سومر في الألف الثالث ق.م. تختلف كثيرا عن بابل في الألف الأول ق.م. بحيث تقودك هذه المقارنة بشكل عفوي إلى التساؤل: أحقا لم يتغير النظام الاجتماعي والقاعدة الاقتصادية في بلاد الرافدين بشكل جذري خلال ألفي عام؟ لقد عرفت البلاد تغيرات كبيرة وهامة جدا، مقارنة بالعهد البابلي القديم. ومست هذه التغيرات الأنظمة الاجتماعية واللغة والعادات ونمط الحياة، وحتى صيغ الوثائق والنصوص.

وعلينا ان نأخذ بنظر الاعتبار ان الفترة التي نحن بصددها ـ بين القرنين السابع والرابع ق.م. ـ شهدت هي الأخرى تغيرات كبيرة. لقد كان المجتمع البابلي في القرن السادس يختلف بوضوح عن مجتمع القرن الذي سبقه، وتميز القرن الخامس بتغيرات جذرية في القوانين المتعلقة بالأرض. لذلك لا يمكن النظر إلى المرحلة التي ندرسها كوحدة لا تتجزأ، وعبارة " القانون البابلي الحديث " التي تستعمل للتعبير عن الفترة الزمنية المحصورة بين القرنين السابع والأول ق.م. هو تعبير شكلي. ويمكن قول الشيء نفسه عن تعبير" القانون البابلي القديم ". ويقسم سان نيقول هذه الفترة، حسب الوثائق المتوفرة، إلى مرحلتين: المرحلة الأولى التي تمتد من القرن الثامن وحتى نهاية عهد داري الأول. والمرحلة اللاحقة تشمل الفترة المتبقية.



(*)
من الآرامية، ويقصد بها عملية إحلال العناصر الآرامية محل المواطنين الأصليين في مختلف مرافق البلاد.

 


 

free web counter