| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عدنان عاكف

 

 

 

السبت 16/2/ 2013



في الذكرى الـ 64 لإستشهاده

فهد في ذاكرة كريم مروة

عدنان عاكف

كريم مروة سياسي ومفكر لبناني معروف وقائد بارز في الحزب الشيوعي اللبناني منذ الستينات. من مواليد جنوب لبنان عام 1930. نشأ في عائلة دينية معروفة ، اشتهر منها الكثير من علماء الدين. انحاز الى الفكر الشيوعي منذ ان كان يتابع دراسته الثانوية في مدارس بغداد برعاية ابن عم والده الشهيد حسين مروه الأديب والمفكر الشيوعي اللبناني المعروف. ثم انتسب الى الشيوعي اللبناني في عام 1952.

انتخب في أواخر عام 1964 عضوا في المكتب السياسي للحزب ، وشارك مع عدد من رفاقه من جيل الشباب في القيادة في حركة تجديد الحزب (1966-1968). انتخب في عام 1984 نائبا" للأمين العام ، واستمر في هذا الموقع حتى المؤتمر السادس الذي عقد في عام 1992. قرر في المؤتمر الثامن الذي عقد في عام 1999 عدم ترشيح نفسه لأي منصب قيادي، بعد ان كان قد بلغ التاسعة والستين من عمره. واختار التفرغ للبحث الفكري.

له العديد من الكتب تناول فيها مواضيع فكرية وسياسية مختلفة، منها ما تتعلق بقضايا الفكر والايديولوجيا، ومنها ما يخص القضايا السياسية اللبنانية والعربية والعالمية. ومن بين تلك الكتب :" كريم مروه يتذكر في ما يشبه السيرة (2002) ". وفي هذا الكتاب يروي في حوار مع صقر ابو فخر جوانب من ذكرياته عن حقبة نصف قرن ونيف من حياته ونشاطه وعن شخصيات التقى بها وعمل معها. وقد نفذت الطبعة الأولى منذ الاشهر الاولى لصدور الكتاب. وصدرت الطبعة الثانية منه في العام الاول لصدور الطبعة الأولى. ويعد المؤلف الطبعة الثالثة لكي تترجم الى اللغة الفرنسية.

قدم مروة الى العراق في النصف الثاني من عام 1947 وأقام في بغداد، وغادرها عائدا الى أهله في نهاية عام 1949. أي انه عايش مرحلة المد الثوري الذي بدأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتصارات الشعب العراقي في وثبة كانون، وكان شاهدا على انتكاسات الحركة الوطنية وهجوم الحكم الرجعي بعد نكبة فلسطين، والذي بلغ ذروته في النكبة التي حلت بالحزب الشيوعي العراقي حين أقدمت الحكومة العميلة على تنفيذ حكم الاعدام بحق قادته، فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي.

وكانت لمروة، بالرغم من صغر سنه خلال اقامته في بغداد، ذكريات كثيرة عن العديد من الحركات والأحزاب الوطنية و الشخصيات السياسية والثقافية التي كانت تعج بها بغداد في مرحلة الانفتاح النسبي التي عاشتها في السنوات القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وله الكثير من الذكريات والتحليلات عن أحداث سياسية كثيرة تركت أثرها الكبير على تطور الحياة السياسية والفكرية في العراق. وقد انتمى الى احدى منظمات الحزب الشيوعي العراقي عام 1948، لكن انتماءه لم يدم طويلا إذ عاد وانسحب من التنظيم بناء على نصائح أصدقاءه، حفاظا على سلامته.

ستكون لنا وقفة مع بعض مما ورد في ذكريات هذا المفكر والمناضل اللبناني عن الشيوعيين العراقيين، وعن فهد بالذات، وعن بغداد وأهلها بشكل عام. لتكن بداية حديثنا بهذه الفقرات التي وردت في مقدمة السيد صقر أبو فخر للكتاب :

" من الدين الى القومية العربية فالشيوعية، ثم الى التصالح بين الاشتراكية والدين، لا بين الدين والماركسية؛ والفرق كبير بين الفكرتين.. انها رحلة مضنية اجتازها كريم مروة في شعاب السسياسة وفي مسالك النضال الاجتماعي وفي حقول الفكر والثقافة. خمس وخمسون سنة صاخبة اقتطعها كريم مروة من مسيرة عمره، ومنحها للأحلام الجميلة وللأمل وللمستقبل الباهر. كان يحلم بالعدالة للجميع، وبالحرية للأفراد، وبالديمقراطية للمجتمعات، وبالتحرر للأوطان كلها...

شيوعي، رغم انه سليل عائلة دينية عريقة من جنوب لبنان. فجده لوالده كان رجل دين. وشقيق جده كان مرجعا دينيا.. وجده لوالدته كان رجل دين أيضا. وشقيق جده كان مرجعا دينيا في قم في إيران. لكن ارتباط جنوب لبنان بالمدن الفلسطينية أدخل الأفكار القومية الى وعيه في وقت مبكر...

لتفاقم الوضع المادي اضطر الأب الى ارسال ابنه الى العراق لمتابعة دراسته. وفي العراق تابع شغفه بالسياسة والأدب برعاية قريبه حسين مروة، الذي كان للتو قد خلع عمامة رجل الدين وتحول استاذا للأدب و الفلسفة.. وفي العراق تفتح وعي كريم على الفكر الشيوعي ".

يبدأ أبو فخر بالسؤال: بدأت قوميا عربيا، ثم صرت شيوعيا في العراق. ما هي المؤثرات الأولى التي أسهمت في تكوين وعيك السياسي ؟ كيف صرت عضوا في الحزب الشيوعي ؟

يسرد كريم مروة قصة تطور وعيه السياسي والفكري بعفوية وسلاسة، ويبدأ منذ كان صبيا مراهقا في منتصف اربيعينات القرن الماضي وحتى عودته من بغداد، التي لعبت الأحداث السياسية المتفجرة والمتسارعة فيها دورا حاسما في تحديد مساره الفكري اللاحق. كانت تلك مرحلة مليئة بالأحداث العالمية والعربية العاصفة. الحرب العالمية الثانية على وشك ان تحط أوزارها وانتصار الحلفاء على ألمانيا الفاشية شكل زخما قويا وحافزا لدى الشعوب العربية لتعزيز مطالبتها الدول الغربية بتنفيذ الوعود التي قطعتها لهذه الشعوب في العمل على منحها الاستقلال والسيادة. وكان للدور البطولي الذي لعبه الاتحاد السوفيتي في دحر الفاشية أثره الكبير على تنامي وعي الشعوب في المنطقة العربية. وفي المقابل هناك الهجمة المتصاعدة من أجل تصفية قضية الشعب الفلسطيني والمتمثلة بتصاعد المحاولات المحمومة من قبل الصهيونية العالمية والدول الاستعمارية من أجل اقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين، واستفحال الدور الذي كانت تلعبه الحكومات العربية العميلة لكبح تنامي الوعي الوطني لدى الشعوب العربية التواقة الى الحرية والعدالة والعيش الكريم، كبقية شعوب العالم الحر.

ويشير مروة الى ان هذه الأحداث المتتالية والمتناقضة والتراكمات دفعته للبحث عن حل. وقد استطاع العثور على هذا الحل بنفسه، وذلك بفعل الأحداث ذاتها التي أثرت فيه :

" كنت قوميا عربيا بالمعنى العام للمفهوم. وكنت متأثرا، أيضا، بانتصارات الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية... كنت في حينها أختلف مع بعض زملائي في المدرسة الذين كانوا يعتقدون ان انتصار هتلر سيكون نصرا للعرب ضد اليهود، لأن من كان عدوا للبشرية لا يمكن ان يكون صديقا للعرب... ولم يكتمل وعيي بالفكرة الاشتراكية إلا فيما بعد، أي بعد ثلاثة أعوام من انتهاء الحرب، وبعد خيبات متتالية أصبت بها جراء ما كان يحصل في بلداننا من فساد وقمع وتآمر وتواطؤ مع الدول الاستعمارية. إذ اعتبرت ان الفكرة الاشتراكية هي التي يمكن ان تشكل مدخلا الى حل المعضلات التي تواجهها الأمة العربية في نضالها من أجل التحرر والاستقلال والتقدم، بما في ذلك إيجاد حل عادل لقضية فلسطين. لذلك انتميت الى الشيوعية كفكرة في بادئ الأمر. ولا بد ان أشير الى ان الجانب التقدمي في فكر حسين مروة وسلوكهه، ووضوح الرؤية في فكر محمد شرارة، صديق حسين مروة وزميله في التدريس – وكان في ذلك الحين، ينتمي الى الحزب الشيوعي العراقي – قد أثرا، من دون شك، في توجيهي بصورة مباشرة وغير مباشرة. وكان كلاهما يقيمان علاقة صداقة مع قياديين في الحزب الشيوعي العراقي، وبالأخص مع حسين الشبيبي، الذي كان يعتبر الشخص الثاني في الحزب بعد فهد. وأدى ذلك في النصف الثاني من عام 1948 ، الى انتسابي الى احدى منظمات الحزب الشيوعي العراقي لفترة قصيرة جدا. لكن حسين مروة، ومحمد شرارة، وبعض أصدقائهما من الشيوعيين ، نصحوا بعدم استمراري في العمل المنظم لأسباب أمنية. لذلك لا أعتبر اني كنت عضوا في الحزب الشيوعي العراقي، بالمعنى الدقيق للكلمة. وكان من أقرب أصدقائي إليً، في تلك الفترة، بين الطلاب، باسل الجادرجي، ابن الزعيم العراقي كامل الجادرجي، رئيس الحزب الوطني الديمقراطي.... وأكثر، باعتزاز وامتنان، ان أستاذا في كلية الهندسة اسمه محمد عبد اللطيف ( قالوا لي فيما بعد انه كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ) أولاني الكثير من الاهتمام. فكنا نتمشى معا في شارع الوزيرية ( شارع السفارات ). وكان يطلب مني الا أتردد بالسؤال عن أي شيء يخطر في بالي. وأحسست انه ربما كان يعمل على تثقيفي بمبادئ الشيوعيية. غير انه لم يطلب مني الانتساب الى الحزب... – وكان الأستاذ محمد عبد اللطيف بالفعل عضو في اللجنة المركزية وأمضى فترات في السجن مع فهد في نهاية الأربعينات.
ع. ع. -..

ما أربكني، حينذاك، هو بعض القضايا الداخلية العراقية المتشابكة، وبعض الشعارات التي كان يطرحها الحزب، وطريقة تعامل بعض قيادييه وكوادره مع القوى الأخرى، كرد فعل على المواقف المتشنجة عند هذه القوى من الشيوعيية والشيوعيين. وأكثر ما ساءني في موقف الحزب يومذاك، رغم إعجابي بشجاعة مناضليه وثقافتهم، هو طرحه في بعض بياناته شعار التآخي العربي – اليهودي ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية، في وقت لم تكن قد جفت آثار الحرب العربية – اليهودية وفجائعها، فلم أستسغ هذا الشعار. وهذه هي المرة الأولى التي أفصح بها عن هذا الأمر. أقول ذلك مع انني كنت صديقا للعديد من الشيوعيين، وكنت ممتنا لدور محمد عبد اللطيف في تثقيفي، وكنت شديد التقدير للأمين العام للحزب " فهد "، الذي كان في ذلك الوقت في السجن مع بعض رفاقه. وهذا التقدير لفهد اكتسبته من تقدير حسين مروة ومحمد شرارة لهذا القائد الشيوعي الكبير، والذي تعمق فيما بعد لدى اطلاعي على سيرته، وبعد ان قرأت أعماله الفكرية والسياسية ".

" لم يكن حسين مروة شيوعيا في العراق. لكنه كان على علاقة وثيقة بعدد من قياديي الحزب الشيوعيي العراقي. وكان يحظى باحترامهم وتقديرهم. وقد قادته مواقفه التقدمية وتطورات الأحداث الى الإقتراب من الفكر الماركسي ومن الشيوعيين، الى ان أصبح عضوا ممارسا في الحزب الشيوعي اللبناني ، ثم عضوا في اللجنة المركزية في أواخر عام 1964 . كان حسين مروة شخصا استثنائيا في ثقافته وأخلاقه وفي القيم التي التزم بها. كان، منذ البداية، واضحا في الانتماء الى الأفكار التقدمية من دون ان يكون اشتراكيا بالمعنى الدقيق للكلمة. وقد استفدت منه ومن علاقاته الواسعة في العراق. وتمكنت، من خلاله وبمساعدة بعض أصدقائه، من إقامة علاقات عديدة في الوسط الثقافي السياسي. ومن خلاله تعرفت على محمد شرارة الذي كان رجل دين مثل حسين مروة، ونزع العمامة مع صديقه، وأصبح مثله أستاذا للأدب العربي في مدارس العراق. وعلى الرغم من انه كان حادا في الدفاع عن أفكاره إلا انه كان إنسانا رائعا في التعامل معنا نحن الشباب. ولا أستطيع ان أذكر محمد شرارة من دون ان أشير الى سيرة هذا الرجل الشجاع في مواصلة الصعاب والمحن وأشكال الاضطهاد التي واجهته وواجهت عائلته. وقد كانت حياة شرارة * ابنته من الطينة ذاتها التي ميزت والدها. وكانت تحمل، في سيرتها، وفي مواجهتها للصعاب حتى الاستشهاد، النموذج الحي لوالدها الشهيد. كنا نلتقي في بيت حسين مروة، ثم صرنا نلتقي في بيت محمد شرارة . كما كنا نلتقي في بيوت أخرى، منها بيت نازك الملائكة.... وفي هذه الأماكن الجميلة تعرفت الى عدد كبير من المثقفين مثل بدر شاكر السياب وبلند الحيدري، الذي صار صديق العمر على امتداد عقود طويلة، ونازك الملائكة ولميعة عباس عمارة **... وخالد الرحال و نزار سليم وعبد الملك نوري وذو النون أيوب وحسن الأمين وكاظم السماوي ونوري الراوي وعامر عبد الله الذي توطدت علاقتي معه ابتداء من الستينات حتى لحظة رحيله المأساوية في المنفى في لندن منذ عامين. إذ كان في المرحلة الأولى يشكل مع عزيز شريف حزب الشعب. ولم يصبح في قيادة الحزب الشيوعي إلا في نهاية الخمسينات. ومنذ ذلك التاريخ ربطتني بكليهما، عامر عبد الله وعزيز شريف، علاقة صداقة حميمة استمرت حتى رحيلهما. إلا ان العلاقة مع عامر عبد الله كانت تتميز بالجدل الدائم في الشؤون السياسية والفكرية، ما يتعلق منها بأوضاع بلداننا وما يتعلق منها بالحركة الشيوعيية وبالنظرية الاشتراكية. وكانت له اسهامات فكرية كبيرة كان آخرها كتابه الذي صدر قبل وفاته بعنوان " مقوضات النظام الإشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد ". أما عبد القادر البراك، الذي أعتبره أحد أهم الذين ساهموا في تكويني الثقافي والفكري، فكنت ألتقي به في مقهى الحيدر خانة. وكان مقهى الزهاوي في وسط بغداد المكان الآخر الذي تعرفت فيه الى العديد من المثقفين الآخرين. وتلك اللقاءات بمجملها هي التي بلورت عندي فكرة الانتماء الى الشيوعية. إلا ان علاقتي بالجواهري كانت قد نشأت أولا من خلال قاءتي لقصائده، التي كانت تحفظ وتردد في كل الأوساط، وكذلك من خلال جريدته " الرأي العام ". ثم صارت حميمة معه، أولا من خلال صديقه حسين مروة، ثم من خلال الصداقة التي ربطت بيننا واستمرة حتى وفاته.

يعود المحاور صقر أبو فخر ليسأل عن ما علقت في ذاكرة المفكر اللبناني عن انتفاضة 1948. يتذكر مروة كيف ان المظاهرات الضخمة التي اجتاحت المدن العراقية تحولت الى انتفاضة شعبية شاركت فيها جميع القوى الوطنية، وأدت في النهاية الى سقوط المعاهدة ومعها حكومة صالح جبر... نشأ في العراق وضع غير مسبوق. إذ ساد نوع من الحرية تميز بصدور صحف عديدة امتلأت بالمقالات الطويلة. وكان كل مقال من مقالات الشيوعيين يتجاوز الصفحة أو الصفحتين. وخرجت الأحزاب السرية الى العلن، وخرج قادتها من مخابئهم التي كانت تبعدهم عن عيون المخابرات وأجهزتها القمعية. وكان في مقدمة هؤلاء قادة الحزب الشيوعي ... وعمت الشوارع التظاهرات... وتشكلت منظمات جديدة من شتى الأنواع. وعقدت الحركة الطلابية الموحدة مؤتمرا لها في " نادي السباع "...كان أركان البلاط الملكي ، بزعامة ولي العهد عبد الإله وحليفه وصديقه التاريخي نوري السعيد، ينتظرون الفرصة ليعودوا الى استلام زمام الأمور. وقد جاءت هذه اللحظة المنتظرة من ثلاثة مصادر : الفوضى التي سادت البلاد والصراعات بين الأحزاب، من جهة ، وتعطل الحياة الاقتصادية وتململ أصحاب المصالح البرجوازية، والخوف الذي تولد جراء بروز الشيوعيين كقوة جماهيرية كبيرة، من جهة ثانية، والهزيمة التي منيت بها الجيوش العربية في الحرب لمنع قيام دولة يهودية، تنفيذا لقرار تقسيم فلسطين، من جهة ثالثة... وهكذا لم نكد نصل الى آخر العام 1948 حتى كانت تلك الفترة الذهبية من تاريخ العراق تتلاشى ، وتخلي مكانها لفترة ارهاب وقمع. وكان من أبرز عناوينها إعدام قادة الحزب الشيوعي.

يواصل كريم مروة سرد قصته العراقية التي ميزتها مرحلة ما بعد الهزيمة والحملة الإرهابية التي عرفها العراق وما رافق اعدام القادة الشيوعيين وتهجير اليهود. فقد استلم زمام الأمور حكومة رجعية. وفي النصف الأول من عام 1949 أقدمت السلطة على اعدام قادة الحزب الشيوعي " فهد " ورفاقه الثلاثة، حسين الشبيبي وزكي بسيم ويهودا صديق. وهذا الأخير تخاذل وانهار قبل ان يصل حبل المشنقة الى عنقه، في حين واجه الثلاثة الآخرون حبل المشنقة بشجاعة الأبطال. وعلقت مشانق هؤلاء الأبطال في باب المعظم، وهي المنلقة التي تنطلق منها الباصات في اتجاه الضواحي. كنت عائدا في ذلك اليوم المشؤوم مع ابن عمي وصديقي نزار مروة من الكرادة الشرقية، حيث كان يقع منزل محمد شرارة، في طريقنا الى منزل حسين مروة في مدينة الكاظمية، الواقعة على ضفاف دجلة في الجهة الشمالية من بغداد. لم تكن المشانق بعيدة عن مكان تجمع الباصات، أي غير بعيدة من المكتبة الوطنية ومن معهد الملكة عالية. ومع ذلك كان صعب عليّ وعلى نزار ان نرى هذا المشهد الرهيب. وقد تصورت يومها هؤلاء الأبطال وهم يهتفون بمثل ما هتف به أبطال آخرون خلال مقاومة النازية في أوربا : " لو أتيح لنا ان نعود الى الحياة من جديد لكنا سلكنا الطريق ذاته ". وهذا بالضبط ما قاله الواحد تلو الآخر، قبل ان يضغط حبل المشنقة على أعناقهم، باستثناء يهودا صديق. وقد أحسست يومها اني أرى أعناقهم، من دون ان أشاهدهم، تشد رؤوسهم الى الأعلى، وهي تحمل أفكارهم ومشاريع تحرير بلدهم التي تتلخص بشعار الحزب : وطن حر وشعب سعيد. أما بقية أجسادهم فكانت تشدهم الى أرض وطنهم والى جذورهم العميقة فيها. ومعروف ان القياديين الأربعة كانوا يرفسون في السجن منذ فترة سابقة على الأحداث التي وقعت بعد توقيع معاهدة بورتسموث...

جعلتني كل تلك التحولات الدراماتيكية ازداد راديكالية في موقفي باتجاه الشيوعية، كبديل من كل ما كنت ألتزم به من أفكار ومواقف!!
 


* ماتت حياة مع ابنتها مها في حادثة غريبة في بغداد في 1/ 8/1997.

** وكان الكاتب قد تحدث عن هذه المجالس الأدبية ولقاءاته مع المثقفين العراقيين في مناسبة أخرى. وتوقف عند الأمسيات الأدبية التي كانت تعقد في بيت السيد محمد عمارة، وخص بالذكرما كان يقرأ من شعر من قبل السياب ولميعة عباس عمارة. وترك لنا مروة جانبا من ذكرياته عن المجالس الأدبية التي حضرها، ومن بينها ما كان يدور في دار الكاتب المعروف محمد شرارة، والتي ساهم بها شعراء شباب كان في مقدمتهم لميعة عباس عمارة وبدر شاكر السياب. ومن بين ما كتب حول السياب :

" وكانت أكثر لقاءاتي به في منزل الأديب محمد شرارة الواقع في منطقة الكرادة الشرقية، وكانت تحضر معظم تلك اللقاءات الشاعرة لميعة عباس عمارة، وكانا يتبادلان قصائد الحب، التي كان فيها بدر أكثر صدقاً من لميعة، وهو الأمر الذي كان يجري تداول الحديث عنه بين أدباء تلك الحقبة. وحين يقرأ قصائده، يفيض مشاعر، إلى الحد الذي كان يوحي للمستمعين إليه وكأنه يقدم إليهم اعترافاً بلغة الشعر يطال ما كان يجيش في داخله من أحاسيس لا يطيق أن تبقى كامنة، ولا يجرؤ على الجهر بها بالكلام المباشر...". وقد أشارت الى هذه الأمسيات مؤخرا السيدة بلقيس شرارة في مقدمة كتاب الأديبة الراحلة حياة شرارة " اذا الأيام أغسقت "، وذكرت اسم السياب ولميعة ونازك الملائكة، والبعض من رجال الفكر اليساري في العراق...".
 


 

free web counter