| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

عدنان عاكف

 

 

 

الثلاثاء 12/5/ 2009



قراءة في كتاب
" موضوعات نقدية في الماركسية والثقافة "
(1)

د. عدنان عاكف

صدر للكاتب والناقد المعروف رضا الظاهر كتاب تحت عنوان ( موضوعات نقدية في الماركسية والثقافة ) عن دار الرواد المزدهرة للطباعة والنشر في بغداد. يتناول الكتاب موضوعات وثيقة الصلة بالثقافة وهمومها، وخاصة علاقتها بالسياسة، وجدلية العلاقة بين السياسي والمثقف قديما وحديثا، وعلاقة كل هذا في ضوء عملية التجديد. وهي كما يقول الكاتب " " ليست مسلمات يمكن تنظيرها، إنما هي إعادة قراءة، بل هي رهان مفتوح، وستظل بحاجة الى مراجعة وإعادة نظر، حتى تستطيع أن تواكب الجديد في الحياة، وإلا تحولت الى عقيدة جامدة ويقين نهائي يشل حركة الفكر".

كان صديق قد سألني ان كنت قد اطلعت على هذا الكتاب، فكتبت بعد قراءتي الأولى ما يلي : لقد وصف رضا في كتابه ما ترجم من " محاضرات في علم الجمال " لهيغل بأنها "خلاصات بالغة الكثافة" لو طُلبَ مني تقييم نقدي مكثف للكتاب لقلت وانا مرتاح الضمير بانه " خلاصات بالغة الكثافة لموضوعات بالغة الأهمية ".

قد ينظر البعض الى هذا الوصف المكثف بداية غير مشجعة ويعدّها دعاية مجانية للكاتب وكتابه. قد تكون دعاية بالفعل، وبودي لو أستطيع ان أقوم بأكثر من ذلك ليصل الكتاب الى أكبر عدد من المثقفين، الذين تهمهم قضايا الثقافة المعاصرة وإشكالية العلاقة بين الثقافة والسياسة. ولكني، في نفس الوقت، على يقين، بان المتعة والفائدة التي يحصل عليها القارئ حال انتهائه من قراءة الكتاب سيتأكد بان دعايتي لم تكن مجانية على الاطلاق.

ما من شك ان التكثيف المشار اليه يشكل إحدى السمات الايجابية والمهمة للكتاب، لكن ذلك قد يناسب البعض ، وهم فئة المثقفين المبدعين من الكتاب والشعراء والفنانين والنقاد والساسة الكبار ، الذين تهمهم قضايا الثقافة وعلاقتها بالسياسة. ولكن الأمر لن يكون كذلك بالنسبة لنا نحن الذين نشكل الفئة الأوسع من القراء، المثقفين البسطاء، الذين يتأرجحون طيلة حياتهم بين السياسي والمثقف. فلا المثقف يعترف بنا لكوننا نفتقر الى موهبة الإبداع، ولسنا بنظره سوى زبائن طارئين ومستهلكين لما ينتجه. ولا السياسي يأتمن لنا، ويعدّنا سياسيين من الدرجة الثانية، أي " تربية دلال ". وأظن ان فئتنا هي، الأوسع وهي، بحكم ظروفنا المعاصرة الأكثر تعطشا الى تلك المواضيع التي أثارها الكتاب، خاصة اذا أخذنا بنظر الاعتبار ان الكتاب ومنذ البداية يشير الى انه يتوجه الى أبناء الداخل، الذين خرجوا لتوهم من خيمة النظام الدكتاتوري .

" ومن نافل القول، انني كماركسي، لست معنيا بتقديم إجابات بقدر ما انا معني بطرح أسئلة. وربما كان طرح الأسئلة بصورة صحيحة أكثر مشقة من تقديم إجابات. ولأجل ان نطرح الأسئلة بصورة صحيحة لا بد لنا من ان نتحرر من المواقف العصبوية المسبقة، وننطلق من الواقع، بحثا عن الحقائق، في محاولة للاقتراب منها. وعلينا ان نطور أدواتنا النقدية باستمرار حتى نكون قادرين حقا، على طرح الأسئلة، على أمل ان نحاور الآخرين ونتفاعل مع أفكارهم لنجد بعضا من إجابات "..

بهذه الفقرة يفتتح الكاتب الصفحة الأولى من كتابه. وبهذه الصفحة الأولى يكون قد فتح كتابه أمام القارئ القادر على التعايش مع الأسئلة التي تطرحها الحياة المتجددة في كل يوم، وعلى استعداد ان يُجهد نفسه وُيفعل عقله للبحث عن اجابات مقنعة تساعده على البحث عن أسئلة جديدة. وفي نفس الوقت أوصد الكاتب من الصفحة الأولى الباب أمام القارئ الكسول الذي تعود على استهلاك الأجوبة المدرسية الجاهزة التي يمكن ان تحفظ عن ظهر قلب كما تعود الكثير منا على حفظ قصائد الشعر الكلاسيكي والآيات القرآنية.

ويذهب الكاتب أبعد من ذلك في هذه الفقرة ليقدم لقارئه الذي يبدي استعداداً لطرح أسئلة جديدة نصيحة بان كل من يرغب بطرح الأسئلة الصحيحة عليه ان يتخلى عن العصبوية والمواقف المسبقة والتحلي بأعلى درجات الموضوعية. كلنا وبدون استثناء مصابون بهذه الدرجة أو تلك بداء " المواقف العصبوية المسبقة "، ويكفي إطلالة سريعة على ما ينشر من نقاشات سياسية وفكرية وثقافية كي يدرك المرء الى أي مدى انتشر هذا الداء بين المثقفين، نتيجة لعوامل كثيرة، يأتي في مقدمتها التربية الخاطئة التي نشأنا عليها وغياب الديمقراطية وحرية الرأي وسيادة الفكر الواحد والاستقطابات السياسية الحادة التي جعلت كل فريق يتمترس في خندقه دون أي محاولة لمد جسور الحوار والتواصل مع المتمترسين في الخندق الآخر. والدعوة التي يوجهها الكاتب لا تقتصر على القارئ الماركسي، مع انه المعني بالدرجة الأولى، بل الى جميع القراء، الذين تهمهم المواضيع التي يتناولها الكتاب، مثل تجديد الفكر الماركسي الذي تحول بفضل سنوات الجمود الطويلة الى " قوانين جامدة جاهزة "، والعلاقة بين الفن والسياسة وإشكاليات العلاقة بين السياسي والثقافي.. ليس الفكر الماركسي لوحده الذي بحاجة الى تجديد. ومن يظن ذلك بالفعل فانه بحاجة ليس الى تجديد الفكر فحسب، بل وتجديد نظاراته الطبية ليرى جيدا ما يجري في الحياة.

يبدأ الكاتب رحلته النقدية لما كان يعرف بالماركسية وما كان يسمى " الاشتراكية " بتأكيده على ان من أسباب انهيار تلك التجربة هو نشوء علاقات غير سليمة بين قوى وعناصر ومكونات العملية الاجتماعية، ومن بينها العلاقة بين الثقافة والسياسة. " وقد تم فصل آليات التحليل، في أحيان غير قليلة، عن الفكر الماركسي ليتحول هذا الفكر الى قوانين جامدة جاهزة. وأصبحنا بسبب هذا التجريد ندرس نقد الرأسمالية دون ان نعرف هذا النظام الذي نهتم بنقده. ورفضنا الليبرالية ومنجزاتها دون ان نكتشفها "...

واحد وعشرون كلمة فقط هي الجملة الأخيرة، رماها الكاتب وانتقل الى موضوع آخر دون ان يلتفت باتجاهنا ليرى ان كنا نلحق به أم لا. لم تعد المسألة " خلاصات بالغة الكثافة " بل بُخل واضح، وكأنه راح " يقطر كلامه بالقطارة ". برأيي كان على الظاهر ان يتوقف عند هذه النقطة المهمة بتفصيل أكثر ، خاصة انه لن يعود اليها لاحقا، مع انها شكلت إحدى الإشكاليات التي طرحتها عملية التجديد في الفكر والتنظيم، وهي المواضيع الساخنة التي دار حولها الصراع بين القديم والجديد، والذي تطرق اليه الكاتب في الصفحات التالية من الكتاب. قد تبدو هذه النقطة سياسية وتهم السياسة أكثر من الثقافة، لكن هذا لا يمنع من معالجتها بتفصيل أكثر.

توقف راف ميليباند في كتابه " الاشتراكية لعصر شكاك " عند هذه النقطة، حين عالج العلاقة بين الديمقراطية الاشتراكية التي يناضل من أجلها الماركسيون والديمقراطية البرجوازية القائمة في البلدان الرأسمالية، والتي يعدّها منظرو الرأسمالية نهاية المطاف في مسيرة تطور المجتمع البشري.. وقد أشار الى ان " الديمقراطية الاشتراكية، في حالات كثيرة، سوف تتبنى وتعزز كثيرا أشكال الديمقراطية الموجودة في المجتمعات الرأسمالية "...ولتوضيح هذه النقطة بشكل أكبر يستشهد المؤلف بفقرة من نورمان غيراس:

" ان الإصرار على التخلي تماما عن الديمقراطية البرجوازية في موضوع السياسة الاشتراكية تحت شعار " تحطيم " الدولة، قد حجب عن أعين الكثير من الاشتراكيين الثوريين قيمة بعض المؤسسات والمعايير التي تحتاج أية ديمقراطية اشتراكية حقيقية الى اقتباسها، منها مجلس نيابي وطني ينبثق، عن انتخابات عامة مباشرة، الفصل النسبي بين السلطات، استقلال السلطة القضائية عن السيرورات السياسية، حماية حقوق الفرد، وتعددية سياسية يضمنها الدستور ".

ما من شك ان الموقف الجديد من الليبرالية ومنجزاتها من النقاط التي تثير جدلا بين أعضاء الحزب والقريبين منه، مما يتطلب الانتباه الى ذلك والعمل من أجل تطوير النقاش وتنميته وتوجيهه بالاتجاه الذي يخدم عملية التجديد وتطورها.

غيران اهمية هذه الموضوعة لا تخص الشيوعيين وأصدقاءهم فقط، بل تعني جميع قوى اليسار والديمقراطيين. لا يوجد في الحزب من يدعي ان عملية التجديد قد حققت المعجزات، لكنها بالتأكيد قطعت خطوات مهمة وجادة. ومنها النقطة التي يثيرها الظاهر بشأن الموقف الجديد من الليبرالية والديمقراطية البرجوازية. ولكن لا يمكن لمن يتابع ما ينشر من آراء ومواقف بعض الكتاب الليبراليين، إلا ان يلاحظ تشبث هؤلاء بنظرة قديمة تجاه مواقف الشيوعيين وانفتاحهم نحو ما هو جديد ويخدم تطور العملية السياسية واغناء الثقافة. والنقطة الثانية المثيرة للإنتباه هي اننا في الوقت الذي نلاحظ فيه قبول الشيوعيين بالديمقراطية البرجوازية، وعدّها منطلقا لنضال مستمر ومتواصل من أجل تعميق مفاهيمها ومنجزاتها، وخاصة ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، وتقليص الهوة بين الأغنياء والفقراء، وانتقادهم الصريح للموقف السابق الرافض لمنجزاتها التي تحققت في البلدان الرأسمالية المتطورة، نرى ان الليبراليين العراقيين والعرب يحاولون التملص من هذه الديمقراطية، واستبدالها بديمقراطية ممسوخة لا طعم لها ولا لون.

ويتجلى هذا الموقف بكل وضوح في كتابات البعض منهم التي انتشرت في السنوات الأخيرة والتي تسعى الى تبييض، ليس فقط أوجه الأنظمة الملكية السابقة في بعض الأقطار العربية، بل والاشادة بفترات الاحتلال الأجنبي لبعض بلداننا. السمات الأساسية التي تشكل الجوانب الايجابية في الديمقراطية البرجوازية، والتي ورد ذكرها في الفقرة التي أوردناها عن نورمان غيراس، لم يضعها غيراس ذاته ولم تشترطها الماركسية، بل هي الشروط التي بلورها المفكرون الليبراليون أنفسهم.. وإلا ماذا يعني إصرار البعض على التمسك بديمقراطية النظام الملكي، في وقت يعترفون بان ذلك النظام كان يمتاز بجميع عورات الأنظمة اللاديمقراطية. وميزته الوحيدة ان درجة استبداده كانت أقل مستوى من استبداد النظام الدكتاتوري الذي قاده صدام حسين. ان خطورة هذه المواقف التي تسعى الى تسويق الديمقراطيات البالية والمشوهة، لا تقتصر على الماضي، بل وتخص الحاضر أيضا، لأن هذا الموقف يعطي مبررا قويا لمن في الحكم اليوم لمنح البلاد ديمقراطية مشوهة كتلك التي سادت في العهد الملكي.

الجديد والقديم :
يتوقف الكاتب بعدها وبشكل مكثف جدا ( وكنت أتمنى لو انه هنا نسي عادته التكثيفية هذه بالنظر لأهمية النقطة المثارة ) عند إشكالية العلاقة بين القديم والجديد والصراع الأزلي بينهما:

" وبما ان ولادة الجديد عملية عسيرة ومعقدة ومتناقضة تتم في ظل تشبث القديم العميق الجذور بمواقعه ووجوده، وتوق الجديد الى ان يمد جذوره الفتية،، فان هذه العملية لا يمكن ان تجري إلا في إطار التجديد. لكن هل يمكن ان نحقق تجديدا للفكر بإنسان ذي تفكير قديم ؟ ان التفكير الجديد لم ينضج بين الباعة المتجولين لأنصاف الحقائق والاكتشافات، وانما بين أولئك الذين تعلموا كيف يلاحقون وقائع الحياة والتاريخ والمصير الإنساني المعقدة والمتناقضة "..

ومن أجل ان نستوعب بشكل أفضل ما يشير اليه الظاهر بشأن الصراع المعقد بين القديم المتشبث بجذوره والجديد القادم لمد جذوره علينا ان نتذكر ان هذا الصراع لا يقتصر على تجديد العقيدة والفكر، بل يشمل جميع جوانب الحياة. كل النظريات العلمية الكبرى تمخضت عن عمليات ولادة عسيرة سبقتها مرحلة صراعات معقدة بين الجديد والقديم، وقد تأخذ مرحلة الصراع أحيانا عشرات السنين. لم تكن المؤسسة الدينية الرسمية،في الإسلام والمسيحية، هي المعرقل الوحيد لتقبل الجديد. في الإسلام وبسبب غياب المؤسسة الدينية الرسمية، كان الصراع (أتحدث عن المجال المتعلق بالعلم والثقافة وليس عن مجال الفكر الديني) يدور بين حملة العلم والفكر الجديد القادم من اليونان وبلاد فارس والهند، وبين المتشبثين بالقديم، الذين ألبسوا مواقفهم لباسا دينيا، بين الكندي، الذي أعلنها مدوية : "وينبغي ان لا نستحي من الحق واتباع الحق من أين أتى، وان أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا..."، وبين أولئك الذين رفعوا راية الدفاع عن الإسلام بحجة حمايته من الأفكار الهدامة والكفر والزندقة..".

أما في أوربا المسيحية فان الأمر اختلف، بسبب وجود المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت تهيمن على جميع النشاط الروحي للإنسان، في مجال الفكر والثقافة والعلم. ليست الكنيسة لوحدها من عارض نظرية كبيرنيك القائلة بمركزية الشمس في الكون والتي حلت محل نظرية بطليموس التي سادت نحو 15 قرناً والتي كانت تؤكد على ان الأرض هي المركز الذي تدور حوله جميع الكواكب. وكانت الصدمة التي أحدثتها في الوسط العلمي وفي مزاج الناس لا تقل عن الأثر الذي تركته في الوسط الديني

ولم تظهر الفيزياء الحديثة على يد نيوتن فجأة، نتيجة لسقوط تفاحة على " صلعته " الكبيرة فتفجرت القوانين الجديدة ، مضرجة بدماء رأسه ، بل نتيجة لمرحلة طويلة من الصراع بين النظرية القديمة السائدة وبين الوقائع العلمية الجديدة التي لم تعد النظرية القديمة قادرة على استيعابها وتفسيرها.

ويقدم لنا تطور علم الجيولوجيا والبيولوجيا أمثلة بارزة بشأن الصراع بين القديم والجديد في العلم. ومن بين الدروس المهمة التي استخلصها المهتمون بتاريخ العلوم ان العلماء أنفسهم، وبالذات الكبار والمشهورين منهم، قد يشكلون العائق الرئيس أمام الأفكار الجديدة، التي أخذت تدق الباب بخجل واستحياء وهي تواجه أساطنة العلم الذين يرفضون بكبرياء التخلي عن النظريات والأفكار القديمة التي اكتسبوا بسببها الشهرة والمجد.

نواصل مع الظاهر حول القديم والجديد : " ويستند التفكير الجديد الى طاقة معرفية شاملة، وذاكرة تاريخية واضحة، وقدرة إنسانية متطورة. أما التفكير القديم فلن يتلاشى بالسهولة ذاتها التي يذوب بها الثلج في الربيع . ولهذا فان التفكير الجديد لا يمكن ان يحرز السيادة فورا على الطرق " المجربة " و" الملائمة "، وإنما عبر عملية صراع مديدة مع الثقافة السائدة، ونقد للقوالب والمفاهيم التي تشيخ فتعجز على مواكبة الحياة .

والتفكير الجديد ، هو أيضا حساسية جديدة لأنه لا يُحسب ولا يُعد، وإنما يجري تجريبه، والإحساس العميق به. ويتطلب منا تغييرا جذريا في طرق تفكيرنا وهو ما يقتضي مراجعة نقدية لمفاهيمنا النظرية، وهو ان التفسير النمطي والتبسيطي للماركسية لصالح تفسير ديالكتيكي عميق يأخذ بالحسبان خصائص واقعنا وعصرنا المتنوعة".

اذا كان الكاتب في الفقرات السابقة قد تناول معوقات التجديد التي تضغط على الإنسان من خارجه في هاتين الفقرتين المترابطتين ،اللتين تكمل إحداهما الأخرى، فانه هنا يضع المرء أمام نفسه، وأمام المعوقات الكامنة فيه، التي تدفعه الى التشبث بالقديم، وهي في أحيان كثيرة تكون أقوى من المعوقات الخارجية. انه يضع الجميع، القائد الحزبي ومسؤول المنظمة الحزبية والعضو البسيط والحزبي القديم الذي ترك التنظيم لأسباب ما، لكنه ، بالرغم من كل شيء، ما يزال يؤمن بالهدف النبيل الذي قدم من أجله الكثير، والصديق الذي لم ينتمِ يوما الى التنظيم، أقول ان الكاتب يضع جميع هؤلاء في ميزان واحد وأمام مسؤولية واحدة.

لا أعني بذلك بان سبب نجاح أو فشل عملية التجديد هي مسؤولية الجميع بالتساوي، إنما المقصود بان الجميع وبدون استثناء مطالبون بالسعي الجدي من أجل التغلب على أنفسهم والاعتراف بانه أمام اختبار يومي صعب لا بد من اجتيازه في كل مرة. وكما على المثقف الكبير الذي يريد ان يبقى كبيراً بالفعل وليس بالاسم ان يواكب المستجدات التي تحدث في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية، على المسؤول الحزبي ان يتذكر أيضا، وإلا فان قطار التجديد في حركة متواصلة، وسوف يفوته حتما اذا فضل الجلوس على مقعده في المحطة ليراقب ما ذا يحدث. حتى حركة التجديد ذاته ينبغي ان تبقى في حالة تجديد، وأن لا تتوقف، وإلا فان تجدد الحياة وتطورها لايتوقف أبدا، واذا أغفلنا المستجدات التي تقدمها الحياة في كل يوم، فان عملية تجديد الفكر والنفس ستتخلف كثيرا.

كلنا مر بتجربة الزلزال الذي أطاح بالتجربة اللاإشتراكية السابقة. من منا لم يشعر بالأرض وهي تهتز تحت أقدامه، ومن منا لم يترنح من قوة الهزة الأرضية، وكم منا أنطرح على بطنه أو ظهره من هول الصدمة. كل هذا حصل لأنا لم نستطع استيعاب الجديد الآتي وبقينا متمسكين بالقديم الذي عشنا معه عقوداً من الزمن. صحيح ان ما حدث يختلف عن الصراع الذي تحدث عنه الأستاذ رضا الظاهر، لأنه كان يتحدث عن جدلية الصراع التدريجي البطيء بين القديم والجديد، إنما الذي حدث كان حدثاً طوفانياً زلزالياً مفاجئاً بكل المقاييس. هكذا بدا لنا الأمر، لكن الواقع يؤكد على ان ما حدث كان لا يختلف عن صراع السيد رضا، غير ان هذا الصراع كان يجري في الأعماق، وينتج طاقة كامنة كانت تتجمع بعيدا عن أنظارنا. حتى غدت تلك الطاقة أكبر من أن يتحملها النظام القديم، فانفجر كل شيء بلحظة، هي الفترة التي استغرقتها تجربة غرباشوف.

وجدير بالذكر هذا بالضبط ما يحدث في الثوران البركاني. قد يخمد البركان مئات أو آلاف السنين، لكن هذا لا يعني انه فقد الحياة. هناك في داخل الأرض وعلى أعماق قد تبلغ عشرات الكيلومترات وبسبب ارتفاع درجة الحرارة تبدأ الأبخرة والغازات تتصاعد نحو سطح الأرض وحين تصادف حاجزا يمنعها من الصعود تنحبس في مستودع ما تحت السطح وتبدأ بالتجمع. ومع زيادة حجمها يزداد الضغط الناتج عن هذه المواد المحصورة. وفي اللحظة التي يصبح فيها هذا الضغط (الضغط الداخلي) أكبر من الضغط الناتج عن الصخور التي تقع فوق المستودع (الضغط الخارجي ) ينفجر البركان!!!

سنواصل القراءة مع الكتاب في حلقة لاحقة


 

free web counter